faryak
12-12-2017, 06:22 PM
قصة : جِينَاتٌ ! spanking ( م/ف ، م/م ، ف/ف ، ف/م )
- بضعة تنويهات :
تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد نوهنا به .
تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين مجموعة من الأفراد بين ذكورهم وبين إناثهم وبين الذكور والإناث ؛ وهؤلاء تجمعهم صلة قرابة من الدرجة الأولى فيما يُشار إليه بالإنجليزية بـ Incest , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد نوهنا به .
تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يقترب من أن يكون ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
Erotic Spanking (/ /> فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .
تنويه 4 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه , ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .
- القصة :
1- يوشك أن يقع .. !
___________________________
- " أرجوكِ ! "
- " انزعْ كلَّ شيءٍ .. الآن!! "
يداه تحاولان إطاعةَ أمْرِها , ولكنّ عقلَه يمنعهما ...
ولمّا لمْ يقم بشيءٍ قامَتْ من جلستها على حافة السرير صوبَه , فكفّ عقلُه عن المنع , وترك يدَيه وشأنَهما ... وفي ثوانٍ كان كل ما يرتديه قد لاصق الأرض ... وهو يقف عارياً أمامَها ...
رجعَتْ لجلستِها على السرير , وبدأتْ عيناها تتفحصانه بلا خجل .... ولماذا الخجل ؟ ... هي من وَلَده ... وإن كان قد مرّ على تلك الولادة ثمانية عشر عاماً !
لقد صار صغيرُها شابًّا يافعاً ... ومثل أيّ شابّ يافع فإنه يريد تجاوزَ الحدودَ ....
كانتْ تغضّ النظر عن بعض التجاوزات الهينة هنا وهناك ... ولكنها رسمتْ في نفسِها خطّين أحمرين لن تتسامح مع تجاوزِ صغيرِها لهما : دراستُه .. وأختُه التوأم ...
- " ما الذي ترى أني سأفعله بك ؟ "
- " ما كنْتِ تفعلينه بي عندما كنْتُ صغيراً "
جاء صوتُه طفوليًّا لا يتناسب مع المنظر الذي رأتْه عندما عادَتْ من عملِها لتسمع صراخ أختِه وقد دفعها لتسقطَ على الأرض ... كان هذا خطًا أحمرَ .. وقد تجاوزه !
- " وأنت لم تعد "صغيراً" في ظنّك ؟! ومع ذلك فأنت تستغل ذهابي للعمل ثم تضرب أختَك كما لو كنْتَ طفلاً في العاشرة ؟! "
كان زوجُها قد توفّي في حادث سيرٍ قبل عشر سنواتٍ ... وقرَّرَتْ حينَها أنّ حياتَها المقسّمة بين رغباتِها وبين تفرّغِها لولديها قد انتهَتْ ... وبدأتْ حياةٌ جديدةٌ ليس فيها غيرُهما ... ولكن للأسف كان الابن لا يزال بحاجة لحزم أبيه الذي مات ، فبدأ في الثورة وعصيان الأوامر ... واضطرَتْ حينَها للعب دور الأم والأب معاً , وأن تتولى عقابَه مكانَ زوجِها ...كانتْ تلك هي بداية " جلسات العقاب " التي صارَتْ جزءًا ثابتاً من حياتِه لسنواتٍ , وإن بدأتْ في التناقص تدريجيًّا ... حتى كان آخرُها بعدما بلغ الرابعة عشرة بأيام ... والآن بعد أربع سنين يعود طفلُها للشقاوة .. وتعود هي لنفس طريقة عقابِه , وإن كانَ ما تراه أمامَها الآن يدل بوضوح على أن أربع سنواتٍ تصنع الكثير بجسد المراهق .. حاولَتْ تجاوزَ النظرَ إلى جسده الذي لم يعدْ طفوليًّا على الإطلاق , وسألَتْه :
- " هل لديك شيءٌ لتقوله ؟ "
- " أنا آسف , ولكنها هي من بدأتْ ... "
- " ما الذي قلْناه من قبلُ حول موضوع ( هي من بدأتْ) هذا ؟ "
جاء صوتُه خافتًا , وكأنه يعترض على ما يقوله :
- " أنني أنا الابن , وعليّ أن أتغافلَ عنها ... "
ثم عاد لرفع صوتِه :
- " ولكنّك لم تعاقبيها أبداً , وهذا يجرّئها على فعْلِ ما تحبّ ! "
فكّرَتْ ( بهيّة ) فيما قاله ووجدَتْه محقًّا ؛ هي لم تعاقبْ ( سوسن ) أبداً ؛ ولكنّ هذا كان مبرّرًا ؛ لقد كانتْ ( سوسن ) ملاكاً , وإن لم تكنْ في تحصيلها الدراسي متفوقة مثل ( بدر ) , ولكنها تبذل كل جهد ممكن في دراستِها , وهي لا تطالبُ ولدَيْها بأكثر من بذل الجهد , أما خارج الدراسة فلا مجال للمقارنة ؛ ( سوسن ) الملاك تطيعها في كل شيءٍ , و(بدر) _ على الرغم من محاولاتِه _ لا يزال " ثوريًّا" في أعماقه .. مثل والده !
كانتْ ( بهيّة ) قد تلهّت بأفكارها عن الإجابة على تعليق ( بدر ) فبحث عن شيءٍ آخرَ ينجيه من العقاب , وقال بصوتٍ _ كان يتمنّى أن يموت قبل أن يسمعه صادراً عنه , ولكن للضرورة أحكام _ :
- " وكنْتُ أعتقد أن الخبرَ الذي بلغَنَا قبل أسبوعين يشفع لي ! "
نظرَتْ إليه أمُّه _وقد أعادَها هذا الصوتُ إلى ذكرياتٍ بعيدة _ , وجاهدَتْ لتمنع نفسَها من احتضانه وهدهدته حتى ينام ...
أمّا ذلك الخبر المشارُ إليه فكان بالفعل شيئاً جللاً , لم تشعرْ ( بهيّة ) بمثل هذه السعادة الجارفة منذ كان زوجُها حيًّا ؛ ... فقبْلَ شهرٍ واحدٍ ظهرَتْ نتيجة الثانوية العامة ... وكانتْ فرحةً عارمةً _ على الأقل في حق ( بدر ) _ , ولكنْ قَبْل أسبوعين جاء الخبرُ الأكبرُ : لقد قُبِل صغيرُها في كلية الطب ... كانتْ سعادتُها لا توصف بهذا الخبر .. وبدأَتْ في سَبْق اسمه باللقب الرفيع ؛ دكتور , وملَّ كلُّ أقربائها وأصدقائها من حديثِها "العرضيّ" عن "الدكتور" ( بدر) , وأخبار " الدكتور" ( بدر ) .... ولكنّ هذا لا يعفي " الدكتور" ( بدر ) من تلقي نتائج فعْلتِه ؛ لقد طرح أختَه أرضاً , وعلى مدار النصف ساعة القادمة ستعمل ( بهيّة ) على أن تشكّل استجابة شرطية في ذهنه بين طرح أختِه أرضاً وبين انبعاث الألم من مؤخرتِه ...
مفهوم الاستجابة الشرطية هذه سيكون فيما يدرسه " الدكتور" (بدر) بعد شهورٍ في كلية الطب , تماماً كما درستْه والدتُه عندما كانتْ في مثل سنّه في نفس الكلية ... قبل ثلاثين سنة !
******************
الخبرُ في كلِّ مكانٍ ...
ولكنّ التفاوتَ بين أحوال المستمعين للخبر هائلة ...
هناك من دمَعَتْ عينُه ... وهناك من سجد شكْراً ....
" جيفارا مات ! "
وهناك من لم يبالِ بالموضوع كلِّه ...
ولكنّ شخصاً بعينه كان أكثر اهتماماً ممن سواه بتوابع هذا الخبر , أو للدقة : بتوابع ما قام به تعليقاً على هذا الخبر ...
هناك شخصٌ ينتظر عقاباً موجعاً على يد والده بعد قليلٍ ...
شخصٌ اسمه : ( بهيّة سالم ) ...
- " (بهيّة) ! "
جاء الصوتُ الهادرُ معلناً عن قرْبِ حدوثِ ما كانتْ تخشاه ... فتكوَّرَتْ أكثرَ في فراشِها وتظاهرَتْ بالإعياءِ ؛ لعلّ هذا ينجيها... ولكنّها تعلم أنْ لا شيءَ سينجيها ...
صوتُ أمِّها ينبعث من خارج الغرفة وهي تتوسّل لأبيها " أن يسامح البنت هذه المرة ! " , والأب يردّ بغلظة توحي بأن الأم لو استمرّت في الشفاعة فسيتسع العقاب لاثنين بدلاً من أن يضيق عن واحد ... فيسْكُتُ صوتُ الأمّ ...
بابُ غرفتِها يُفْتَح ... يشير الأبُ لأختِ ( بهيّة ) الكبيرة بأن تخرج من غرفتِهما وتغلق البابَ وراءَها .. أختُ ( بهيّة ) تنظر إليها في مواساة .. ثم تفرّ هاربةً من الغرفةِ التي صارَتْ معزولةً عن العالم الخارجي ... وليس فيها سوى الصائد والفريسة !
الصوتُ الهادرُ يعود مرّةً أخرى :
- " أريد فقط أن أعرف لماذا ؟ "
- " لقد كانتْ مجرّد دعابة , أنا لم أؤمن بحرفٍ مما كتبْتُه ! "
عاد الأبُ يزمجرُ , ورفع ورقةً في يده , وبدأ يقرأ :
( ... عندما تغرق السفينة يغرق قبطانُها معها , ولكنْ عندما تغرق السفينة وينجو القبطانُ , ثم يتظاهر بالاعتذار بينما هو قد جهّزَ مَن يقاطع اعتذارَه ليبايعه ويفدّيه ويدعو له بطول العمر ودوام السيادة ... عندها لا يصح أن يقال : ما علّة تخلفنا وما سبب نكستنا ؟ ... ولنا في موت ( جيفارا ) عبرة؛ ( جيفارا ) القبطان الذي سبق بحّارتَه لحتفه ؛ المناضل الذي ... )
قاطع الأبُ قراءتَه الغاضبة ليتوجه بسؤالٍ ناريّ لابنة الثامنة عشرة المكوّرة في سريرها أمامَه :
- " أتدرين ما الذي كان يمكن أن يحلّ بكِ لو انتشر هذا المنشور ؟! "
جاء الصوتُ المسموع بالكاد :
- " أنا لم أكتبْه لأنشرَه ! "
ويأتي الردّ الذي يصمّ الآذان :
- " فلماذا كتبتِه إذن ؟؟! "
لم يتلقّ ردّاً , إلا هينمة مَنْ هو موشكٌ على البكاءِ , فأضاف :
- " هذه هي ! لطالما كنْتِ فتاةً مؤدبة مبتعدة عن المشاكل , ولكن في الفترة الأخيرة لا أدري ما الذي حدث لكِ .... هل تدرين ما الذي كان ينتظركِ في السجن لو قبض عليكِ بهذا المنشور؟ ... لا ؟ ... حسناً سأعطيكِ فكرةً عمّا نصنعه بالمساجين السياسين ؛ حتى تعلمي خطورةَ ما فعلتِه .... وبما أنّكِ ابنتي فلن " أقسو " عليكِ ... سأكتفي بأقلّ صورة من صور عقاب المسجونين سياسياً ... الآن انهضي من السرير واصعدي للسطح وهاتي خرطوماً من هناك ... ثم سنبدأ الحفلة ! "
- " أبي , أرجوكَ ! لن أكرّرَها مرّةً أخرى ! أرجوكَ ! "
- " صدقيني ما سأفعله بكِ لمصلحتكِ ؛ إن الشباب في سنّك يحسبون الثورة عبثاً يقوم به كلُّ أحد ... ويظنون أن التهجم على القيادات موضة يقلدون بعضهم في فعلِها ... وأنا سأشفيكِ من هذا كلّه ... مع سقوط الخرطومِ على جسدكِ ستنسين كل هذه الدوافع الثورية , وتتفرغين لدراستك وأسرتك ... السطحَ ! "
- " هناك خرطوم تحت السرير ! "
- " ماذا ؟ "
- " لقد توقعتُ أن ينتهي الأمر إلى هذا , وخفْتُ أن يراني أحدٌ في النهار وأنا أجلب الخرطوم من السطح فيخمّن ما يوشك أن يقع , فصعدْتُ ليلة البارحة وجلبْتُه ووضعْتُه تحت السرير ! "
نظر الأبُ في دهشة , وهو يحاول أن يفهم ... كان ما وصل إليه _ بعد جهدٍ _ هو أن ابنته قد تجرّأتْ على كتابة ذلك المنشور ثم أرادَتْ الاعتذار عن فعلِها فوضعَتْه في حيث يراه , وأعدَّتْ آلةَ عقابِها كنوعٍ من الاعتذار وإظهار الأسف ؛ ولكنْ .. إظهار الأسف على ماذا ؟ لو لم يعثرْ هو على تلك الورقة لَمَا عَلِم بشيءٍ , ولانتهى الأمر من قبل أن يبدأ ...
- " لماذا وضعْتِ هذه الورقة على مكتبي ؟! "
فطَنَتْ ( بهية ) إلى أنّ مخطَّطَها على وشك الانكشاف , ماذا سيقول أبوها إذا اكتشف أنها خططتْ لكل هذا ؛ لأنها "راغبة" في أن يعاقبَها ! هذه كارثةٌ ! ثم اهتدَتْ لمخرجٍ ولكنه يبدو كالاستجارة من الرمضاء بالنار , ولكنْ لا سبيلَ آخر :
- " أنت ضابط في الشرطة ! "
- " ثم ؟ "
- " لقد كانتْ هذه ثورة ضباط , وربما صار الوقتُ مناسبًا لثورة ضباطٍ أخرى ! "
اتّسعَتْ عيناه في ذهولٍ , وهو الذي كان يحسبُها تعتذر , فإذا هي " في الواقع " تحاول تجنيدَه .. أيّ نية مسبقة بتخفيف عقابِها قد طارَ بها هذا الاعتراف !
أمسك ساعدَها بغلظة , ورفعها من السرير , ثم قبْل أن تدرك ما يحدث كان قد عرّاها من كل شيءٍ ؛ لو كانتْ قد سجنَتْ بتهمة محاولة تجنيد ضباط , ومحاولة قلْبِ نظام الحكم , لكان هذا أهونَ ما ستمرّ به ... ثم مدّ يده تحتَ السرير فوجد الخرطومَ كما قالَتْ ...
نظرَ في عينيها فوجدها مذعورةً ... فكّر في أنها لم تحسبْ حسابًا لكلِّ هذا , ولكنّه طيشُ الشباب ...
ثمّ رأى أن علاج طيش الشباب متوفّرٌ ويسيرٌ .. وأنه لن ينتهي اليوم حتى تكون قد عولجت به ..
************
- " ( سالم سمير ) ! "
- " أفندم ! "
- " قَسَم الشرطة ! "
تلا ( سالم ) القسم , وتناول الشهادة ...
كان ( سالم ) يتمنى هذه اللحظة طيلةَ حياتِه تقريباً ؛ أن يصير شرطيًّا في شرطة جلالة الملك !
والآن تحقق حلمه ؛ لقد صار لديه مسدسه ورتبته , وزادَتِ الهوّةُ أكثر وأكثر بينه وبين بقية الفلاحين الأميين ؛.... كان يكره هؤلاء كرهاً مقيتاً , ولكنّ فدادين أبيه لن تَزْرَعَ نفسَها ...
وعندما عاد لقصر أبيه استقبله البوّاب بلكنته الغريبة واحتفائه العاميّ , ولم يستطع أن يمنع نفسَه من الإغلاظ له في الرد , ولكنّ البوّاب كان يزداد بالجفاء حفاوةً , كأنه يرى أن كل ما يصدر عن السيّد مقبول ... بل مرغوب فيه ...
كان ( سالم ) غافلاً عن وجود أبيه في شرفة القصة على بعد أمتار منه .. يسمع ردوده الجافية على البوّابِ ... لم يكن ( سمير باشا ) يهتمّ كثيراً بمنْع احتقارِ ابنه للفلاحين , ولكنه كان يرى أنّه لا ينبغي أن يتخلى الباشا ولا ابن الباشا عن رقيّه _ حتى لو كان ذلك أثناء تعاملِه مع فلاح _... ولذلك فقد عزم على تلقينِه درسًا ... وعندما جمعهما العشاءُ تلك الليلة , وبعد أن بارك لابنه الوظيفة الجديدة _ التي كان الباشا يحتقرها سرًّا , ويرى أنها وظيفةٌ منحطةٌ _ سأله عن الحوار الذي سمعه بينه وبين البوّاب صباحاً , فردّ الابن في عدم مبالاة .. ولكنّ الأب ألحّ عليه في تفسير الطريقة التي تكلم بها مع البواب , فجاء جواب ( سالم ) مستغرباً :
- " إنه بوّاب , وليس ابن ذواتٍ .. أعتقد أنه كان مسروراً حتى بتعنيفي له "
- " هو ليس ابن ذواتٍ , ولكنك أنت ابن ذواتٍ , والحوار علاقة بين طرفين ! "
- " ما الذي كان يفترض بي أن أصنعه ؟ أن أكلمه بالإنجليزية ؟! "
كان الباشا يكره الطريقة الساخرة التي يجيبُ بها ابنه على أسئلتِه , ولذا فقد أمضى عزمَه على السير في هذا الطريق حتى النهاية :
- " على ذِكْرِ الإنجليزية , أتعرف أنني حللْتُ ضيفاً على أحد اللوردات الإنجليز في سفري الأخير ؛ اللورد ( بليذن ) , إنه زميل دراسة , لقد حكيْتُ لك عنه ... ومعك حقّ : إن هؤلاء القومَ آيةٌ في الرقيّ والحضارة والأخذ بأسباب المدنية ... ولكنّي كنْتُ دائماً ما أتساءل كيف تُمْنَحُ الحضارة والرفاهية لشخصٍ ما ثم يجد بعد ذلك دافعاً للعمل والاجتهاد والمحافظة على مكانته ومكانة مجتمعِه ... في الواقع لقد شكوتكَ صراحةً للورد ( بليذن ) , وما أنت عليه من استهتار وعدم احترامٍ معي , فكان ردّه الهادئ هو : ما نوع العقاب الذي تستعمله لتأديبِه ؟ ... فظنَنْتُ أنه نَسِي أنك شاب في العشرين , فأخبرْتُه بذلك , فقال إنه يعرف ذلك , ولكنّه لا يزالُ يؤدِّبُ ابنَه وابنتَه وهما تقريباً في نفس السنّ ... وأنه خلافاً لما يعتقد البعض فإن الشاب أو الفتاة يكونان أحوج للعقاب في تلك الفترة , ولكن أولياء الأمور نادراً ما يتنبهون لذلك ... في الواقع لقد أصرّ على أن يريَني بنفسه كيف يعاقب ابنَه _ الذي يبدو أنه فعل ما يستحق العقاب _ أمام عينيّ , وكنْتُ أنا بالطبع محرجاً من ذلك , ولكن أمام إصراره فقد وافقْتُ على دعوتِه تلك , وبعد أن رأيتُ عقابَ ابن اللورد أستطيع أن أقول إن ذلك قد أجاب على سؤالي القديم حول ما يمنع الأشخاص _ خصوصاً الشباب _ من الانجراف إلى اللذائذ والانغماس في الرفاهية بالرغم من توفر أسبابِها لديهم "
نظر ( سالم ) في ضيقٍ إلى والدِه , وقد ساءه ما سمعه , وبدا أنه يعرف إلى أين يتجه هذا الحوار , ولكنّه قرّر أن يسأل على أية حال :
- " ما هو بالضبط العقاب الذي عاقب به اللورد ابنه ؟ "
- " أعتقد أنه من الأفضل أن أريك عمليًّا , بدلاً من أن أشرح لك كلاماً ؛ ففي النهاية إن طريقة كلامك مع البوّاب اليوم ذنبٌ كافٍ موجبٌ للعقوبة ... هل فرغْتَ من تناول طعامِك ؟ "
نظر ( سالم ) في قلقٍ , وهو لا يدري إن كان والده يمزح أم لا , ثم قال :
- " ستريني عمليًّا , الآن ؟ بعد أن أفرغ من طعامي ؟ ألا يمكنك أن تنتظر إلى الغد ؟ "
- " إن مما قاله اللورد ( بليذن ) : إنه كلما تأخر زمان العقوبة عن زمان الذنب , كلما قلَّتْ فاعليّة العقاب , وأعتقد أنني لا أريد أن يكون أول عقابٍ لك عديمَ الفاعليّة !"
- " في الواقع أنا لم أشبع بعد ! "
- " ولن تشبع أبداً , ما دمْتَ تعلم أنّه بعد الشبع يأتي العقاب المستحقّ ... لذا فدعْ لي أنا تقديرَ شبعِكَ الذي أرى أنه تحقق ... وأرى أن هذا هو وقْتُ الانتقال إلى سريرك وانتظاري هناك حتى آتي لأعاقبكَ ! "
كان ( سالم ) لا يصدّق أذنيه ؛ لقد كان يعتقد أن العقابَ سيكون حرماناً من مصروفٍ , أو حتى إذلالاً بطلب تنظيف القصر أو زراعة الأرض , ولكنّ " انتظرني في سريرك حتى آتي لعقابك " هذه لا تتناسب إلا مع شيءٍ واحدٍ ...
- " إن لم تنتقل لسريرك الآن , وترتقِبْ عقابَك عارياً كما ولدتْك المرحومةُ أمُّك ، فسأعاقبك هنا على مرأى ومسمع من الخدم "
كان صوتُ الأب مرتفعاً , وفكّر ( سالم ) أن الجميع قد سمعوا التهديدَ , ولم تفتْه صوتُ الضحكاتِ المكتومة , وخاف إن تأخر في الاستجابة لأمر والده أن يشهد الخدمُ عقابَه صوتاً وصورةً , فهرع إلى سريرِه , وانتظر هناك لوهلة , ثم تذكّر تمام جملة والده فاحمرّ خجلاً , وهو ينزع عنه كل خيط من ملابس ثم يجلسُ على السرير فينضغطُ ردفاه العاريان على الملاءة الباردة ...
وعندما انفتح البابُ بعد دقائق ... توقف قلْبُ ( سالم ) عن النبض لجزء من الثانية وهو ينظر إلى الباب المفتوح... ؛ هذا هو والده لا شك فيه , ولكنّه ليس وحدَه!
*******
- "ستتزوجين من باشا , فماذا يبكيكِ ؟ "
- " إنه كبيرٌ في السن ! "
- " إنه في الخامسة والثلاثين ؛ وهو مع ذلك باشا ! "
- " أنا لا أريد باشا , أنا أريد شخصاً في مثل سنّي ! "
نظرَتْ ( حميدة ) إلى ابنتِها الباكية , وقالتْ :
- " ( صباح ) , يا حبيبتي , إن الزواج ليس كما يصوّر في الروايات ؛ إنه علاقة احترام وتفاهم في المقام الأول , وفارق السن لا يحول دون الاحترام والتفاهم ... ثم إنه .. "
- " باشا , أعرف ! .. وأنا بنت أفندي موظف بسيط , والفارق بين هذين يساوي في عملة السنين خمس عشرة سنة ! "
- " إن لم ترغبي في زواجه , فلا تتزوجيه , ولكنْ لا تتحدثي عن أبيكِ بهذه الطريقة ! "
نظرَتْ إليها ( صباح ) في غضبٍ , وقالَتْ :
- " لماذا لم تتزوجي أنتِ الأخرى باشا , بدلاً من أبي ... فأصيرَ أنا بنت باشا وأتزوج شخصاً لا يكبرني بخمس عشرة سنة ! "
كانتْ ( حميدة ) تحاول إمساكَ أعصابِها , ولكن ( صباح ) دائماً ما كانتْ تنجح في إثارة جنونِها ... اليومَ يتقدم لها باشا , و للمرة الأولى تشعر ( حميدة ) أن هناك فرصة فعليّة لابنتها لترقى السلم الاجتماعي ؛ إن ابنتها تقرأ وتكتب وتجيد الكلام المزوّق ؛ فهي صالحة لحياة القصور .... ولكن الفتاة الطائشة تريد شاباً ممن تقرأ عنهم في تلك الروايات السخيفة ... وتحاول الأم مرةً أخرى أن تسلك مسلكاً عقلانيًّا :
- " لماذا لا تقابلينه بدايةً ثم تقررين فيما بعد إن كنتِ موافقة أم لا ؟ "
- " لسْتُ موافقةً من الآن , فما الداعي للمقابلة ؟ "
- " لعله يعجبكِ ؛ مع السنّ تأتي الحكمة والوقار ! "
- " فليتزوج مَن هي في سنّه إذاً ؛ طلباً للحكمة والوقار ! "
لم تدْرِ ( حميدة ) ما الذي تصنعه بهذه الفتاة , فقالَتْ :
- " على أية حالٍ لقد وافق أبوكِ ؛ فرأيكِ تحصيل حاصل , فبإمكانكِ أن تفرحي بزفافك إلى باشا , وتعيشي حياة هانئةً , أو تجعلي اعتراضاتك البلهاء حائلاً بينك وبين السعادة ؛ الخيار لكِ ! "
- " هذا هو الاختيار ؟! لقد اخترنا لكِ وافرحي _ رغم أنفكِ _ , أو احزني على عدم امتلاكك لأمر نفسكِ ؛ لك الخيار ! بالمناسبة إن المأذون يسأل عن موافقة العروس , وإذا قلْتُ لا فلن يتم العقد ! "
- " سنعقد الزواج بدون مأذون إذن ، ثم هل أنتِ من الحمق بحيث تفعلين ذلك ؟ تردّين كلمةَ أبيكِ بعد أن زوّجَكِ ممن ارتضاه لكِ ؟ "
- " المفروض أن يكون الرضا منّي أنا ! "
- " وما الذي لا يرضيكِ فيه ؟ "
- " إنه في الخامسة والثلاثين ! "
- " أكنْتِ لِتَرْضَيْ به لو كان في الخامسة والعشرين ؟ "
- " نعم ! "
- " ماذا عن الثلاثين ؟ "
- " نحن لا نفاصل في سوق الخميس ! إن خمس عشرة سنة فارق كبيرٌ ! مهما رفعْتِ السعرَ تدريجيًّا فلن أشتري ! "
فطنَتْ أمُّها إلى فكرةٍ مخيفةٍ فسألَتْ :
- " هل هناك شخصٌ آخـ .. "
- " لا ! لا يوجد شخصٌ آخر , أنا لا أخرج من البيتِ ؛ من أين سيأتي شخصٌ آخرُ ؟! كل ما أريده أن أتزوج شخصاً مناسبًا ؛ وليس شيخاً فانياً ! "
- " حدِّقي في عينيّ ! "
كانتْ ( صباح ) تكره هذه الجملة عندما تقولُها أمُّها ؛ قد تكون أمُّها أميّة أو ساذجةً حتى , ولكنّها تستطيع شمّ الكذب من أميال ؛ خصوصاً إن كانَتِ الكاذبةُ ابنتَها ... رفضَتْ ( صباح ) أن تنظر إلى عيني أمِّها , فقالَتْ ( حميدة ) :
- " إن لم يكنِ السببُ وجودَ شخصٍ آخرَ ,وليس ما تظاهرْتِ به من فارق السنّ , فما علة رفضكِ إذًا ؟ ... هل تعتقدين أن إحداهنّ قد سحرَتْكِ أو عانتْكِ ؟ "
- " سحرَتْني حتى لا أتزوج هذا المرفّه ؟ لقد خدمَتْني إذًا ! "
- " هذا هو السبب إذن ؛ المرفّه ! "
- " لا , هذا ليس السببَ ؛ إنها مجرد صفة .. "
- " هذا هو السبب : أنتِ تريدين شخصاً يهزّ بك السريرَ , وليس ... "
- " أمّي !! "
- " هل هذا هو السبب ؟ لماذا لم تصارحيني ؟ "
نظرَتْ ( صباح ) إلى أمِّها في غضبٍ , ثم قالَتْ :
- " حسناً ؛ أنا أريد شخصاً إذا جاء الليلُ عاملني كما تعامل فتياتُ الهوى , فإذا طلع الصباحُ صرْتُ أنا من بناتِ الناس وصار هو من أهلِ الإتيكيت ! "
ابتسمَتْ أمُّها, ثم قالَتْ :
- " صار من أصحاب ماذا ؟ "
ردَّتِ الابنةُ في سخرية :
- " الإتيكيت ؛ إنه لقب لرجال القانون في فرنسا ! "
فأجابَتِ الأم في غبطة بمعرفة ابنتِها الواسعة :
- " فعلاً : العلم نورٌ ! "
شعرَتْ ( صباح ) بالاستياء بمجرّد صدور التعليق البريء من أمِّها ... ثم إن أمَّها فطَنَتْ إلى ما حدث , فقالَتْ :
- " لا علاقة له بالقانون . أليس كذلك ؟ "
- " لا ! إن له علاقة بالأكل والشرب والرقص وأشياء أخرى .. "
- " رقص ؟! "
- " على أية حالٍ ؛ أنا أتفهم أن والدي قد أعطى الرجل .. "
- " الباشا ! "
- " ..الباشا موافقتَه , ولكني لا أرغب في أن أعيش بقية حياتي مقيّدة بقيود اللباقة وسعادتَك وسعادتِك ؛ على الأقل ليس في غرفة النوم ... "
- " سأقاطعكِ هنا لأخبركِ بخبر كان متوقّعاً أن يزهّدكِ في الباشا , ولكنْ : محاسنَ الصدفِ ! "
- " ماذا ؟ "
- " إن الباشا طلّق ثلاث زوجاتٍ من قبل ! "
- " أمن المفترض أن يكون هذا شيئاً جيداً ؟ "
- " عندما سمعْتُ بهذا الخبر للمرة الأولى قلْتُ في نفسي : فلتذهب الباشوية إلى الجحيم , ما دام الرجل مطلاقاً فلن أكون سبباً في كساد سوق ابنتي بزواجها منه ثم طلاقها بعد ذلك وزُهْدِ الرجال فيها ... ثم رأيْتُ أن أسأل عن أخبارِه فعلمْتُ أن زوجاتِه الثلاث الأول كنَّ جميعاً من بنات الشأنِ أو المرفّهاتِ ؛ فكرهْنَ منه ما تمنيْتِه أنتِ , وطلبْنَ الطلاقَ ... ولو لمْ تفاتحيني أنتِ في الموضوع لفاتحْتُكِ أنا فيه ! "
- " ما الذي كرهْنَه بالضبطِ ؟ "
- " ما يصنعه رجالُنا البسطاء بنا منذ بدء الخليقة ؛ أنْ يُشْعِرَ الرجلُ المرأةَ بأنوثتِها ! "
تورّد خدّا ( صباح ) فقرَّرَتِ الأم أن تتمادى :
- " لا يصحّ مثلاً أن يفاجئ الرجلُ زوجتَه وهي ترتدي ملابسِها , فيصنع مثلما يصنع هؤلاء المخنّثون المتأنقون فيتنحنح ويطلب المعذرة وينسحب ، بل عليه أن يستمتع بما هو حقّه , فيقبض على هذا ويضرب على ذاك ... "
- " أمي !!! "
- " أنا لا أفهم كيف يعيش هؤلاء الباشوات حياتَهم بهذه الطريقة , ولكنْ بما أنّ هذا الباشا بالذات لم يفقد عقلَه في المسائل الزوجية , ولا يزال يرغبُ فيما نرغب نحن فيه , فأنا لا أرى داعيًا لردِّه بعد أن وافق عليه أبوكِ . أليس كذلك ؟ "
- " حسناً ... إنني لا زلْتُ بحاجةٍ إلى أن أقابلَه أولاً ! "
تجاهلَتِ الأمّ تعليق ابنتِها _ فقد أدركَتْ من نغمة كلامِها أنها قد وافقتْ سلفًا _ وأضافَتْ :
- " وبذا يبقى لنا موضوعٌ آخرُ : لقد رفضْتِ مصارحتي بعلة رفضكِ للباشا , وظللْتِ تلفين وتدورين ... ثم هزأتِ بأمِّك البسيطة غير المتعلمة وجعلْتِ الكتاكيت تدخل في القانون .. "
ضحكَتْ ( صباح ) رغمًا عنها , فأضافَتْ أمُّها :
- " من حسن الحظ أنّ القصص التي أذاعتْها طليقاتُ زوجك المقبل قد شملَتْ شيئاً صالحاً لأن يكون عقاباً لكِ على ما فعلتِه قبل قليلٍ ! "
نظرَتْ ( صباح ) في دهشةٍ لأمها , فأضافَتْ الأم :
- " وفقًا لما بلغني من تلك القصص : فعندما تشغبين على زوجك في المستقبل , فإنه سيصنع بكِ آنذاكَ ما سأفعله بكِ الآن .. مع خلافٍ في الدافع بالطبعِ ؛ هو يريد منك ما يريده الرجل من زوجتِه بالإضافة لتأديبك , وأنا لا أريد سوى تأديبِك ! والآن انزعي ملابسَكِ ! "
- " عندما يؤدبني سيطلب مني أن أنزع ملابسي ؟ "
- " هل بدأ خيالُكِ في التحليق من الآن ؟ وفقاً لروايات المطلقات ؛ فإنه يصرّ على نزعِها بنفسه "
كانتْ ( صباح ) تتمنى أن تنفرد بنفسِها لتنشغل بتصوّر المشهد , وما ينشأ عن تصّور المشهد ... ولكنّ أمَّها كانتْ مصرّة على معاقبة ابنتها " طويلة اللسان " في التوّ ..وبدأتْ تمدّ يدَها تجاه ملابس ابنتِها , فقالتْ ( صباح ) :
- " مهلاً .. مهلاً ... دعينا نفكِّرْ عقلانيًّا في الأمر ... لقد أوصلْتِ فكرتَكِ .. كان ينبغي أن أصارحَكِ ... لا حاجةَ الآن لهذا العقاب ! "
- " إن العقابَ لم يبدأ بعد يا طفلتي ! "
كانتْ ( حميدة ) قد رفعَتْ عباءة ( صباح ) حتى وصلَ ذيلُها إلى ذراعي ( صباح ) , فأثارَتْ الحركةُ أشجاناً قديمة لديهما جميعاً ... وابتسَمَتْ ( حميدة ) وهي تقول :
- " آخر مرّة قمْتُ فيها بهذا الفعلِ , كنْتِ تشتكين من أن الماء سيكون بارداً وأنّكِ لسْتِ بحاجة للاستحمام ! ... ارفعي ذراعيكِ ! "
أطاعَتِ البنتُ طلبَ أمِّها , ثمّ قرَّرَتْ أن تلعبَ الدور :
- " ولكنّ الماء بالفعل باردٌ , وأنا أكره الاستحمام ! "
كانتِ العبارةُ مألوفةً في أذن ( حميدة ) , ولكن الصوتَ قد تغيّر والجسد قد تغيّر ؛ وإن كانَتِ الشقاوةُ على حالِها ...
وعندما أكمَلَتْ ( حميدة ) تعريةَ ابنتِها , جرَّتْها فاسْتَجْرَرَتْ لها , فبلغا سريرَ البنتِ فجلسَتِ الأمّ وأجلسَتِ ابنتَها في حجرِها مستقبلةً الأرضَ بوجهها , وعاليةً مؤخرتُها في السماء , وقد حاكى لونُ خدّيها ما يوشك أن يتلوّن به ردفاها ..
وكانتْ ( صباح ) منشغلة بخجلها من الموقف , ولكنّ شهقة بكاءٍ قد أعادَتِ انتباهها إلى أمِّها , فأدارَتْ رأسَها لتنظر إليها , فوجدَتْها تبكي , ولم يكنْ يخفى على ( صباح ) الدافعَ , ولكنّها قالَتْ :
- " لِنأملْ ألا يرى زوجي فيّ ما يبكيه هو الآخر ! "
فضحكَتْ ( حميدة ) , وقرَّبَتْ يديها من بعضهما وكأنها تحاول أن توصل المعنى بالإشارة لأن الدموع تمنعها من الكلام , ففسَّرَتْ ( صباح ) حركتَها :
- " لقد كنْتُ _في يومٍ ما_ بهذا الحجم الذي تشيرين إليه بيديكِ... هذا هو ما يبكيكِ ؟ "
هزّتْ ( حميدة ) رأسَها قبولاً , فأضافَتْ ( صباح ) :
- " وما زاد فيّ طولاً في تلك الفترة , زاد فيكِ عرضاً , فكلانا قد تغيّر ! "
بعض الأشخاص لا يوجد لديهم أدنى إحساس بالمتغيّرات الخارجية وضرورة التواءم معها ؛ لقد كانت ( صباح ) معتادةً على هذه المداعبات مع أمِّها , ولكنها ستكتشف قريباً جدًّا أن هناك فارقاً بين أن تتحامق على أمِّها وهما جالستان كاسيتان يتناولان الطعام , وبين أن تفعل ذلك وهي ممددة عريانة ومؤخرتها قد صارَتْ دعوةً مفتوحةً لكفّ أمها لتقلنها درساً ...
فارق ضخم بين الحالتين , فارق شديد الاحمرار وشديد الألم .. وشديد القدرة على تذكير الشخص بما فعله في كل مرة يحاول أن يجلس فيها !
**************
2- كان وشيكاً , فوقع !
___________________________________
حاولَتْ ( صباح ) أن تقنع نفسَها أنّ ما تشعر به ناشئٌ عن تصوّرِها لما سيحدث لها على يدِ زوجها , وليس ناشئاً عما تفعله بها أمُّها في هذه اللحظة !
وأيًّا يكنِ الدافعُ الفعليّ , فقد كانَتْ موشكةً على أن تنفضح ...
كانَتِ الصفعاتُ التي تهيلُها أمُّها على ردفيها الرجراجين كافيةً لإحداث الألم ولكنّها ليسَتْ كافيةً لاقتصار ما تُحْدِثُهُ على الألم ... لقد نشأ عنها _ بالإضافة إلى ألم الردفين _ ألمٌ فيما بينهما ... وجاهدَتْ ( صباح ) لتخفي ذلك ؛ ولكنّها كانتْ تعلم في أعماقِها أنّ أمّها تعي ما يحدث تماماً ...
وعلى الجانب الآخر كان تأويل ما يحدث أشقّ وأصعب على ( حميدة ) ؛ إذا كان عذر ( صباح ) فيما تجده من أحاسيس هو أنها تتشوّق لعقاب زوجها المقبل , فما هو عذر ( حميدة ) فيما تجده من أحاسيس ؟ لم تجد شيئاً تخبر به نفسَها سوى أنّها إنما تتمنّى هي الأخرى أن يصنع بها أبو ابنتِها مثلما تصنعه هي الآن بابنتِها ؛ لا شكّ أن هذا هو التفسير الدقيق لتلذّذها بما تفعله ...
ثم جاءها صوتُ ابنتِها العذب :
- " أميمتي ! أرجوكِ ! "
لم تتمالك ( حميدة ) نفسَها , كان قد مرّت سنون كثيرة بعد آخر مرة نادَتْها ابنتُها بهذا التصغير .. فتوقفَتْ عن صفعِها , ونظرَتْ إلى المؤخرة الفاتنة التي في حجْرِها , ولم تتمالك شعورَها بالفخر وهي تنظر إلى هذا الجمالِ الذي أنجبَتْه , وقالَتْ :
- " لا تسقط التفاحةِ بعيداً عن شجرتِها "
لو لم تكن ( صباح ) قد لقِّنَتْ درساً لتوّها , لأسرعَتْ بالردّ العابثِ , ولكنّ مؤخرتَها صارَتْ لها الكلمةُ العليا فمنعَتْ لسانَها من التلفظ بما لن يعود عليها إلا بالأذى , فكفّ اللسان عن لهوِه خوفًا من بطش الردفين المحمرّين غضباً به ! ولاحظَتْ أمُّها ذلك , فقالَتْ :
- " لا تعليقاتٍ ساخرةً ؟ "
- " لقد تعلَّمْتُ درسي ! "
هذا الصوتُ ! ... فكَّرَتْ ( حميدة ) أنه من الظلم أن يحمل المجتمع الأطفال على التخلي عن هذا الصوت في خطاب أمهاتهم بمجرد بلوغهم سنًّا معينًا ... هي لم تشبع _ ولن تشبع _ من سماع ابنتِها تتحدث بهذا الدلال ! وربَّتَتْ على مؤخرتِها فقامَتْ هذه من رقدتِها في حجرِ أمِّها وهي تستر من جسمها أشياءَ حياءً ممّن ولدَتْها , والأمّ لا تزيد على النظر والابتسام , فقالَتِ البنتُ محرجةً :
- " هلّا غادرْتِ رجاءً ! حتى أرتدي ملابسي ! "
- " ستستطيعين ارتداءَها وحدَكِ ؟ "
- " أمي !! "
- " حسناً , ولكنْ تذكيرٌ مهمّ : أي تجاوز آخر من هذه اللحظة حتى اللحظة التي ستنتقلين فيها إلى بيتِ زوجتِك سنتعامل معه بنفس هذه الطريقة . هل هذا واضح ؟ "
- " نعم , هذا واضح ! هل يمكن أن تغادري الآن , رجاءً ! "
- " حسنًا , ولكنْ استديري مرّةً أخيرةً حتى أتأكد من أن عقابكِ تمّ على أكمل وجه ! "
- " أمّي !! "
قامتِ الأم من جلستِها , فخافَتْ الابنة أن يكون هذا استفتاحاً لمزيد من العقاب , فاستدارَتْ بسرعةٍ , فابتسمَتِ الأم وفكَّرَتْ : متى كانَتْ آخرَ مرَّةٍ استجابَتْ فيها ابنتُها للأوامر بهذه السرعةِ ؟ ثم انشغلَتْ بالنظرِ إلى احمرار المؤخرة التي أدارتْها صاحبتُها لتقابلَها , وقالَتْ :
- " ربّما لأن هذه هي المرة الأولى سنكتفي بالوصول إلى هذه الدرجة اللونية , ولكن في المستقبل توقّعي أن يكون العقابُ أشدّ .. إذا فعلْتِ ما تستحقين العقاب لأجله بالطبع "
- " حسناً يا أميمتي ! "
- " حسناً يا صغيرتي , سأخرج الآن لترتدي ملابسكِ "
وعندما خرَجَتْ الأمُّ من الغرفة لم تكنْ ( صباحُ ) محتاجةً لارتداء ملابسها لفترة طويلة من الوقت !
************
أشار إليها لتتمدد على السرير , فتوسَّلَتْ له مرةً أخرى أن يعفو , فلم يعفُ ... فأطاعَتْ أمرَه ... وانتظرَتْ أن يرفع رجليها أو أن يطلبَ منها رفعهما , ولكنّ الخرطومَ هوى على مؤخرتِها ... لم يكنْ هذا ما سمعَتْ بأنه يحدث في السجون , ولكنّها خمّنتْ أنه نوعٌ من تخفيف العقوبة ... وإن كان ما تشعر به من ألم في ردفيها لا يترادف إطلاقاً مع كلمة " تخفيف " ...
ظلَّتْ الضرباتُ تهوي على ردفيها حتى تحولتْ صرخاتُها إلى بكاءٍ مفتوحٍ ... وسمعَتْ صوتَ طرقٍ متسارعٍ على باب غرفتِها ... فتوقعَتْ أن تكون أمُّها قد سمعَتْ صوتَ بكائها المرتفع , وتريد أن تعود للشفاعةِ لها ... ويبدو أن أباها توقّع ذلك أيضاً , فلم يبالِ بالطرْقِ , واستمرّ في عقابِها ... ثمّ عندما بدا أن العقابَ لن ينتهي أبداً ... توقّفَتْ الضرباتُ , فرفعَتْ عينين حجبَتِ الدموعُ عنهما معظمَ الرؤية , ولكنها استطاعَتْ مع ذلك أن ترى أباها وهو يتوجّه بسرعة جهةَ البابِ , ثم سمعَتْ صوتَ انفتاح الباب وصراخَ أبيها :
- " (سنيّة) ! ما الذي كنْتِ تفعلينه خلف الباب ؟ هل أنتِ من طرقَ البابَ قبل قليلٍ ؟ "
سمعَتْ ( بهية ) صوتَ أختِها الكبرى , وهي تجيب في ذُعْرِ شَخْصٍ لا يستطيع الكذبَ من شدة الخوف :
- " بل أمي كانَتْ هي الطارقة وقد راعها صوت بكاء ( بهيّة ) ! ثم لمّا لمْ تفتَحِ البابَ فقد ذهبَتْ للمطبخ حتى لا تسمع صوتَ الضربات والبكاء "
- " وما الذي كنْتِ تفعلينه خلف الباب على ركبتيكِ ؟ "
- " .... إمم ... لقد كنْتُ أنظر من الثقب ! "
- " لماذا ؟ "
- " .... "
- " أكنْتِ تخشين أن أقتلَ أختَكِ فأردْتِ التأكّدَ من سلامتِها ؟! "
أجابَتْ ( سنية ) غافلةً عن مغزى السؤال لفرط سعادتِها بأن وجدَتْ مخرجاً :
- " نعم ! هذا هو السبب ... "
ثم فطِنَتْ لما قالَتْه فاستدركتْ في سرعة :
- " .. أعني : لا ! .. لا , بالطبع أنت لن تؤذيَها وتريد مصلحتَها .. "
- " فما هو سبب تجسسك على أختكِ إذن ؟! "
ولمّا بدا أنّ الأمورَ لن تسيرَ على ما يرام , قالَتْ _ معترفةً _ :
- " لقد رأيْتُ ( بهيّة ) وهي تكتب تلك الورقة... المنشورَ .. وتضعه عمْدًا على مكتبكَ لتقرأه فخمّنْتُ سببَ فعلِها ذلك , وأردْتُ ... "
قاطعها أبوها :
- " مهلاً , ما هو السبب ؟ "
- " ..... "
- " ( سنيّة ) ! إن لم تصارحيني في هذه اللحظة بهذا المخطّط الأحمق الذي تقوم به أختك والذي ربما كنْتِ متواطئةً معها فيه , فأقسم أن أجعلَكما أنتما الاثنتين تذوقان وقْعَ هذا الخرطوم طيلة هذا الأسبوع يوميًّا ... "
أجابَتْ ( سنيّة ) في عجلةٍ :
- " هذا هو السبب ! "
- " ما هو ( هذا ) ؟؟!! "
رأتْ ( بهيّة ) أن الأمور سائرة إلى جهة خطيرة , فتدخلَتْ , وجاءَ صوتُها ليعيد انتباه الأبِ إلى ابنته الصغرى :
- " ما تريد ( سنيّة ) قولَه أننا نفتقد وجودَك في المنزل بسبب طول ساعات عملك , وأحياناً نتمنى أن تكون معنا في البيت زماناً أطول لتقوم بدورك معنا كأبٍ ! "
- " أنا لا أقصّر معكما ماديًّا , وأثني على تفوّقكما في المدرسة وفي الجامعة في كلِّ مناسبةٍ ! "
جاء دور ( سنيّة ) لترد على أبيها :
- " هذا هو الثواب .. ولكنْ ... إمم ... "
أكملَتْ لها أختُها :
- " ولكنّه غيرُ كافٍ , نحن بحاجة إلى من يقوّمنا إذا أخطأْنا ! "
استعادَتْ أختُها المبادرة , فقالَتْ :
- " وبما أن الأخطاء الطبيعية لا تصل إليك , فقد رأتْ ( بهية ) أن الأخطاء الصناعية ستكون أنجع في عودتِك للعب دور الأب والمربّي "
كان ( سالم ) في دهشة مما يسمع , وإن لم يكنْ وقعُ الكلام غريباً عليه ؛ فكأن ابنتيه تمثّلان دورَه على خشبة المسرح عندما كان في سنِّهما , وإن كانتِ المبادرةُ في حقِّه هو قد جاءتْ من أبيه إليه وليس العكسَ , فقال في هدوءٍ :
- " هذا المنشور لم يكن معدّاً لتقع عليه عينا أحدٍ غيري . أليس كذلك يا ( بهية ) ؟ "
- " بلى ! "
- " وأنتِ يا ( سنيّة ) رأيتِه على مكتبي , فلم ترفعيه ؛ لأنكِ أنتِ الأخرى تتمنين لو كتبتِ شيئاً مماثلاً لأقتنع باستحقاقكِ للعقابِ وأعاقبكِ . فرأيْتِ ألا تحرمي أختكِ مما ترغبين فيه . أليس كذلك ؟ "
- " بلى ! "
- " حسناً , قد أكون بالفعل منشغلاً معظم الوقت بسبب طبيعة عملي , ولكن من الآن فصاعداً : في يوم الإجازة كل أسبوع ستأتيان إلى مكتبي ومعكما قائمة بكل ما تريان أنكما تستحقان العقابَ بسببه مما صنعتماه طيلة الأسبوع , وسأعاقبكما عليه ... ما دام هذا ما تريدانه ... وأرى أن ( بهيّة ) قد نالتْ كفايتَها من العقابِ على هذا " المقلبِ " ولو كان حقيقةً وليس مقلبًا لاستمر عقابُها لساعاتٍ , فقد كنْتُ أنوي أن أجعلها تذوق ما يذوقه عاثر الحظ الذي تقع منشوراتُه في قبضتِنا حتى تعلم خطورةَ فعلِها ... أمَا وقد اتضح أنه مقلب فما نالتْه يكفي ... بقي أن أكرِّرَ ما فعلْتُه مع أختِها الكبيرة ... ( سنيّة ) ! "
- " أنا آسفة ! "
- " ذنبكِ ليس مثلَ ذنبِ أختِكِ , ولكنّك لا تزالين مذنبة باشتراكك _ولو ضمنًا _ في " عملية المنشور " هذه , وبتجسسك على أختكِ .... وبما أنكما ستعاقبان معاً من الآن فصاعداً , فلا معنى لخروج ( بهية ) وانتظارها في الخارج حتى أفرغ من عقابكِ , والآن انزعي ثيابكِ وتمددي على سريركِ كما ترين أختكِ تفعل "
نزعَتْ ( سنية ) ثيابَها وهي تشعر بوقع عين أختها وأبيها عليها , فتضاعف خجلُها , ثم تمددَتْ على سريرها , ودفنَتْ وجهها في مخدتِها ... وانتظرَتْ وقوع الخرطوم على مؤخرتِها .. ولكنّ ما شعرَتْ بوقوعه على ردفيها لم يكنِ الخرطومَ... فالتفتت بوجهها لترى أباها واقفاً جوار سريرِها , ففسر لها :
- " سندّخر الخرطومَ للمخالفات الجديّة ... وفيما دون ذلك سيكون عقابكما بيديّ . حرفيًّا ! "
كان أوّل ما تبادر إلى ذهن ( سنية ) هو الأسى لأختِها التي نالَتْ عقاباً أشد ... ولكن بعد بضعة صفعاتٍ .. بدأتْ ( سنية ) تشك في أن هناك فارقاً بين الخرطوم وبين يد أبيها ؛ وإن كانَتْ لم تجرّب وقع الخرطوم ليكون إحساسُها ذا قيمة علميّة !
وبعد بضعة صفعاتٍ أخرى بدأ الاحمرار يغزو مؤخرتَها وينشر جنوده في كل موضع تصله يد الأب , وكانَتْ اليد تصل إلى كل ما يمكن الوصول إليه بخلاف الخرطوم محدود المساحة وصعب التحكم ... ثم بعد بضعة صفعاتٍ أخرى بدأ نحيبُ ابنة العشرين في الازدياد حتى اكتسب نغمةً ثابتةً , وشعرَتْ أختُها بالأسى لها , ولكنّ انشغالَها بالألم الذي لا يزال متّقداً في عجزِها قد ألهاها عن الانشغال بمشاعر غيرِها ...
ولما بلغ الأب ما نوى أن يجعله الصفعات الأخيرة زاد في قوتِها حتى بدا أن ( سنية ) ستصرخ صراخاً منكرًا لو استمر طويلاً في هذه الصفعاتِ العنيفة ... ولكنّها انتهَتْ سريعاً , ثم جاء صوتُ الأب :
- " هل تعلمْنا درسَنا ؟ "
جاء صوتُ الابنتين جميعاً :
- " نعم يا أبتي ! "
فقبّل ( سالم ) جبين ( سنية ) ثم انتقل إلى أختها الصغيرة فقبّل جبينَها , ثمّ قال _في لهجة مسرحية ذكَّرَتْه بأدائه في أقسام الشرطة في جلسات التعذيب _ :
- " من الآن فصاعداً لا جريمةَ بدون عقابٍ "
وعلى الرغم من مسرحية العبارة , فقد تفاعلَتْ معها البنتان , واعتذرتا في تذلل وتأدب , وفكّر ( سالم ) في أنهما على الأغلب تمثّلان هذا التذلل والخضوع . ولكنّه قرر أن تكون تلك العبارة هي جمْلتَه الأخيرة , وغادر الغرفة وأغلق بابَها وراءَه , ليقابل الأمّ المندهشة مما حدث , والتي تسأل عن مصير ( سنيّة ) وعما إذا كان لحقها ما لحق بأختِها , وأرادَتْ أن تذهب لغرفة البنتين لتطمئنّ أنهما بخيرٍ , فأصرّ الأب على ألا تفعلَ , ليتركا البنتين تتعافيان مما تعرضتا له للتوّ .
وكان لدى ( سالم ) شبْهُ يقينٍ بأن البنتين _ مباشرةً بعد خروجه _ ستنخرطان _كلّ على حدة_ فيما سيخوض فيه هو وزوجته معاً فيما بعد !
***************
قال الأبُ في ميكانيكيّة رتيبة وكأن الأمرَ لا يعنيه :
- " من النصائح القيمة للورد ( بليذن ) أن يتم العقاب في حضرة مَنْ تجاوَزَ "الغلامُ" _واللفظ للورد _ في حقّه , واستحق العقابَ بسبب ذلك ! "
كان ( سالم ) لا يزال مدهوشاً من رؤية أبيه له عارياً في هذا السن , ومدهوشاً من تصاعد الأحداث فجأة لتكون هذه الرؤية مقدمة لعقاب جسديّ , ولكن ذهولَه بسبب وقوف البوّاب بجوار أبيه كان يفوق أيّ شيءٍ اندهش له في حياتِه , حاول أن يقول شيئاً , ولكن الجملة الأولى كانَتْ من نصيب البوّاب :
- " لا يوجد داعٍ يا سعادة الباشا , أنا أكثر من مسامحٍ في حق أيّ تجاوزٍ من الباشا الصغير ؛ نحن نحملكما في أعينِنا ! "
ردّ ( سمير ) :
- " من أخطأ يحاسَب , وكلما زاد قدْرُ المخطئ زادتْ محاسبتُه ، وإلا فإن المركز والمكانة بدلاً من أن تجعله أفضل من غيرِه ستجعله أسوا ... حتى لو كنْتَ مسامحاً في حقِّكَ فأنا لسْتُ مسامحًا في صلافةِ ابني في التعامل معك , وبما أنك تطيع أمري على حسب ظني ... "
قاطعه البوّاب :
- " نحن نخدمك بأعينِنا يا سعادة الباشا ! "
أكمل ( سمير ) :
- " ... فإنك ستفعل ما أطلبه منك , وستشهد عقاب هذا "الغلام" , _ وتسمية غلام هذه من ابتكارات اللورد ( بليذن ) في حق كلّ من يستحقون العقاب _ .. في الواقع إذا استمرَرْتَ في الاعتذار من شهود عقابِه فسأجبرك على أن تعاقبَه بنفسِك ! "
ردّ البوّابُ في ذعرٍ :
- " إلا هذه يا سعادة الباشا ! "
- " حسناً إذن , اجلس على هذا الكرسيّ , وشاهد عقابَه , ولا تشفع له أو تعتذر له , وإذا فعلْتَ ذلك فسنخرج أنا وأنتَ بعد الفراغ من عقاب "الغلام" , وسأحبوك بربع جنيه كامل , وإن بدأت في الشفاعات والاعتذارات ومحاولة إلانة قلبي عليه , فستقوم أنت بإكمال عقابِه , ولن تحصل على أيِّ مالٍ ؛ هل هذا واضح ؟ "
ضغط البوّاب على نفسِه , ليحملَها على طاعة الباشا الكبير _ وإنْ كانَتْ هذه الطاعةُ تفيد ضمنًا إهانةَ الباشا الصغير _ فقال :
- " أمرك يا سعادة الباشا ! "
ثم توجَّهَ للكرسيّ وجلس إليه ...
كان ( سالم ) طيلة هذا الحوار يتمنى أن تنشق الأرض وتبلعه .. فلمّا توجّه إليه أبوه .. أبصر في جلاءٍ ما يحمله في يدِه , وسأل في توجّسٍ :
- " فرشاة شعرٍ ؟ "
- " نصيحة أخرى قيّمة من اللورد ؛ في الواقع هذه فرشاة شعر المرحومة أمك ؛ حتى تعلمَ أن عقابَك واقعٌ ممن أنجبك بفرشاة شعر مَن أنجبتك , فتكف عن اعتبار نفسِك " كبيراً " , وتستعدّ لعقابِك دون لغطٍ "
ثم جلس الأبُ بجوار ابنِه على سريرِه ... والابن لا يزال مستحييًا من أن ينظر أمامه لئلا تقع عينُه على عين البوّاب ... وهو لا يدري ما الذي يخطط له أبوه بالضبط , ولا لماذا جلس ... وجاءه الجوابُ في أغربِ صورةٍ ممكنة عندما تقوّس على فخذي أبيه وصار كفا يديه وقدماه طرفين للقوس وصارتْ قمةُ القوس مؤخرتَه ! وكان يدرك التفسير الذي سيسوقه أبوه , وبالفعل فقد جاءَتْ كلماتُ الباشا :
- " نصيحة أخرى قيّمة من اللورد ! أن يعاقَبَ " الغلامُ " على هذه الهيئة , حتى يدرك مكانَه في هذه الدنيا ؛ عاريًا مقلوبًا تقابل مؤخرتُه الشقيّة صفعاتِ مؤدّبِه , وهو لا يملك حتى حمايةَ مؤخرتِه من الصفعات ! "
كانَتْ هذه الغرفة في هذه اللحظة تضم ثلاثة رجال تفصل بينهم عوامل السن والمكانة والثقافة , ويجمع بينهم شيءٌ واحدٌ كلّهم يتمنى ألا يعلم الآخران به !
وعندما بدأتْ فرشاةُ شعرِ ( صباح ) في إيجاع مؤخرة ابن ( صباح ) وَجَد زوجُ ( صباح ) نفسَه يتذكر المرحومةَ ؛ أو على الأقل يقنع نفسَه أنّ ما يمرّ به سببُه تذكّرُ المرحومة ! وزحزح ابنَه تدريجيًّا لِتقتربَ بطنُ الابنِ مِن ركبتَيْ الأب , لتعطي مساحةً للباشا ليتذكر المرحومةَ زوجتَه! وشعر بأن ابنَه هو الآخر يتذكّر حبيبةً له لعله قابلَها أو شيئاً من هذا القبيل , وإلّا فما هذا الذي يشعر به في جانب رجلِه ؟
وفي نفس اللحظة كان البوّاب يتمنى أن يكون من الطبقة العليا في المجتمع ؛ لا ليتمتع بمالها وثرائها ومكانتِها , ولكن ليجوز له أن يضع رجلاً على رجلٍ في حضرة هذا الباشا ؛ ليخفي ما لا يشكّ في أن الباشا وابنه كانا ليُعْدِمَاه لو نظرا تجاهه فرأياه !
ولم يكن البوّاب يعلمُ أن معاناة ( سالم ) لا ترجع بالدرجة الأولى إلى الألم الذي ينتشر في ردفيه كانتشار النار في الهشيم , بل ترجع بالدرجة الأولى إلى نفس المخاوف التي تراود البوّاب ... ولكنْ _خلافاً للرجلين البالغين _ فقد كان " الغلام " لا يمتلك ترف أن يَسْتُر سرَّه بالملابس, وعاجلاً أو آجلاً سينتهي عقابُه ويَطْلُبُ منه والدُه القيام , وسيرى الباشا _ إن لم يكنْ قد أحسّ بالفعل _ والبوّابُ حينَها أنّ الولد كان يحتاج العقابَ لأسبابٍ بعيدة كلّ البعد عمّا تشرحه نظريّات الجريمة والعقاب في كليات القانون !
كانَتْ جلسةُ العقابِ هذه "مؤلمةً " للجميع , وما أنِ اطمأنّ الأبُ إلى وصولِ مؤخرة ابنِه إلى درجة حرارةٍ كافيةٍ لإنضاج الطعام عليها .. حتى قرَّر في نفسه إنهاءَ عقابِه , ولكنّه لم يدرِ ما الذي يصنعه بعد ذلك , بإمكانه أن يأمر ابنَه بالنهوض , ولكنّ الأب يحتاج إلى أن يستمر جالسًا وإلا افتضح ! ثم وجد مخرجاً غريباً , ولكنّه مَخْرَجٌ , فقال في صوتٍ تعمّد أن يجعله يبدو قاسيًا :
- " ما الذي استحقَقْتَ العقابَ بسببه يا ( سالم ) ؟ "
كان ( سالم ) هو الآخر قد أدرك انتهاءَ العقاب , وهيّأ نفسَه للمصيبة القادمة , ولكنّ السؤالَ فاجأه , فأجاب :
- " لم أتحدّثْ بطريقة لائقة مع البوّاب ! "
- " وهل تعتقد أنّ مشاهدته لعقابِك كافيةٌ في تعويضه عن الضرر النفسانيّ الذي لحقه بسبب ما فعلْتَه ؟ "
لم يكنِ البواب يعلم ما هو الضرر النفسانيّ بالضبط , ولكنّه أدرك ما يوشك أن يقع تماماً كما أدركه ( سالم ) , الذي اكتفى في الإجابة على أبيه بكلمة واحدة :
- " أرجوك ! "
- " أرجوك ماذا ؟ "
- " لقد تعلَّمْتُ درسي , لا حاجةَ للمزيدِ ! "
بدا للأب أن ابنه _لسببٍ ما _ بحاجة للمزيد , خلافاً لما يقوله ! ولكنّ الأبَ لم يدرِ ما الذي اعتمد عليه بالضبط للوصول إلى هذه النتيجة ؛ أو على الأقلّ لم يشأ أن يصارح نفسَه بالسبب الحقيقيّ الذي اعتمد عليه للوصول إلى هذه النتيجة .. ولكنه قال في هدوءٍ :
- " الآن ستذهب للبوّاب ليكمل عقابَكَ لأنه هو من تعرّض لسوء أدبك , وهو أحقّ بأن يجازيَك عليه ! "
كان ما يخطّط له الأب أن ينتقل ابنُه ليعاقبَه البوّاب , وفي هذه الفترة _بمعجزةٍ ما _سيكفّ عن "التفكير في المرحومة زوجتِه" , وتنتهي "المشكلة" , ويقوم ليغادر مع البوّاب ... ولكنّ ما حدث بعد ذلك خيّب كل هذه الآمال ...
ما إن قام ( سالم ) حتى قام معه شيءٌ آخرُ , وظهر أمام الباشا والبوّاب أن " الغلام " قد صار رجلاً مكتمل الرجولة , على الأقل على المستوى الجسدي ... ولكنّ هذا المشهد قد زاد من "تذكر الباشا للمرحومة زوجته "...
ثمّ نظر ( سمير ) إلى البوّابِ _وهو يتوقع أنه سيعترض على معاقبة الباشا الصغير_ فرآه قد اكتسب جرأةً عجيبةً إذ وَضَعَ إحدى رجليه على الأخرى وكأنه باشا ابن باشا , وكاد ( سمير ) يعنّفه على فعلِه , ولكنّه فطن في اللحظة الأخيرة أنّ البوّابَ لا بد أنه " يتذكر هو الآخر زوجتَه " بنفس المنطق الذي دفعه لتذكّرِ زوجتَه!
وما إنْ توجّه ( سالم ) لمعاقبِه الجديد _ الذي تخلى عن عقد رجليه عندما اقترب منه ( سالم ) _ , حتى تخلى الفلّاحُ عن كلّ مفاهيم الطبقية والمكانة , وأمسكَ بابن الباشا إمساك صقرٍ بحمامةٍ , وألقاه على فخذيه كما رأى الباشا يفعل , وأهوى على مؤخرتِه بيده صفعاً... وشعر ( سالم ) بكلّ شيءٍ إلا الألم .. شعر بعيني أبيه ترمقانه بينما يدُ أبيه تحاول أن تزيدَ اتساعَ بنطالِه الذي ضاق فجأةً فلم يعد يتّسع له , وشعر بوتدٍ "مجهول المصدر " يحتكّ ببطنِه كأنه مُمَدَّدٌ على ثعبانٍ , وشعر برجليه تتحركان جيئةً وذهوبًا على فخذ معاقبِه كأن ثَوْبَ البوّابِ قد غُمِس في العطر وهو يحاول أن يَعْلَقَ بأسفلِ بطنِه شيءٌ من هذا العطر ؛ أو على الأقل هذا هو التفسير " المهذّب" الذي ارتضاه لِمَا يحاول أن يصنعه ..
كلّ هذا ويد البوّاب تهوي على مؤخرتِه بصفعاتٍ لو كانتْ في غير هذا السياق لعوى لها ألماً , ولكنّه في هذا السياق لا يشعر بشيءٍ من ألمِها , بل هو منشغل بـ"تعطير بطنِه" !
وعندما بدا أنّ انكشاف سرّ البواب والباشا أهونُ مما يوشكُ أن يقعَ , قرّر ( سمير ) أن ينهي عقابَ ابنِه , فطلَب من البوّاب أن يتوقف , ولكنّ هذا الأخير كان منشغلاً عن تلبية طلبِ الباشا الكبيرِ بمؤخرة الباشا الصغير , فكرّر الأبُ الطلبَ وقد رفع صوتَه , فتوقّف البوّابُ , أمّا الابن فقد خانَه فمُه وندتْ عنه صيحةُ احتجاج خافتة , ولكنّ البالغَيْنِ تجاهلاها ... ثم قال ( سمير ) :
- " أعتقد أننا قد طبقْنا نصيحة اللورد ( بليذن ) فيما يتعلق بصفع " الغلام " وبقيَ جزءٌ يسمّيه هو رعاية ما بعد العقاب , ولكنّي أرى _ بالنظر إلى ما نحن فيه _ أنّ هذا هو آخرُ ما نريده ... وعليه فلْنَتْرُكِ " الغلامَ " وحيداً ليفكّرَ فيما استحقّ العقابَ بسببه , ونعودَ نحن لمشاغلِنا ... "
كانتْ هذه الدعوة الأخيرة موجّهة للبوّاب الذي لا يزال يحدق بالمؤخرة المستقرة في حجْرِه , وكأنّه يتأسف لفراقِها الوشيكِ , فلمّا أتمّ الباشا كلامَه , نبّه جزءٌ صغيرٌ متبقٍ من العقلانية في عقل البواب .. نبّه هذا الجزءُ سائر العقلِ إلى أن يتذكر أين هو ومكانةَ هذا المتمدد على حجرِه , فعاد البوّاب _ بعد التذكرة _ إلى اللين في الكلام :
- " بالطبع يا سعادة الباشا , وأريد أن أكرّر _بما أنني انتهيْتُ من تنفيذ أوامر سعادتِكم_ أنّ الموتَ كانَ أحبَّ إليّ من فعلِ كلّ هذا , لو لم تكونوا سعادتَكم قد أمرْتُم به ! "
كان هذا الكذبُ فجًّا , ولكنّ الجميع رضي عنه ؛ إذ ليس هذا مكانَ الصدق على الإطلاقِ , فالتقط الأب الخيطَ , وقال :
- " بالطبع ! وأنا أيضاً كنْتُ أتمنى ألا أحتاجَ إلى مثل هذه القسوة في التعامل مع وحيدي , ولكنّ حرصي عليه أعظم من شفقتي الأبويّة ! "
كان هذا دورُ ( سالم ) _الذي لا يزال مستقرًّا بإرادتِه في حضن البوّاب _ , فقال :
- " وأنا كنْتُ أتمنى ألا أضطر أيًّا منكما للقيام بما تكرهانه تفانيًا من أجل تقويمي , وأعِدُ ألا أعود لمثل هذه الأفعال ! "
ثم قام من رقدتِه وسرّه مفضوح للرجلَين , وقاما هما أيضاً وسرّهما مفضوح لمن يكلّف نفسه النظرَ إلى بنطال هذا وثوب ذاك , واستقرّ ( سالم ) على سريرِه , وقد خرج أبوه وبوّابُه معاً , وكان آخرَ ما سمِعه منهما قبل أن يبتعدا عن غرفتِه قولَ الباشا للبوّاب :
- " هذا جنيهٌ كاملٌ جزاءَ طاعتِك ! "
وردّ البواب :
- " شكراً جزيلاً يا سعادة الباشا ! ولكنّ ذلك كان أغلى عندي من كل أموال الدنيا ... وأعني بـ"ذلك" طاعتَكم بالطبع ! "
فابتسم الأب والابن معاً وهما يتذكّران مشهدَه وهو مستمع بـ " طاعة الباشا " ...
كان هذا آخر ما سمعه ( سالم ) من الرجلين في تلك الليلة , ثم افترق ( سمير ) والبوّاب بعد أن تبادلا بضعة جمل أخرى لم يسمعْها ( سالم ) , وبالرغم من أن ثلاثهم قد افترقوا مباشرةً بعد انتهاء جلسة العقابِ , فإنّ الصباح لم يطلع حتى كان كلّ واحدٍ منهم قد استدعى طيف الرجلَيْنِ الآخرَينِ ؛ ليصوِّرَ لنفسِه كلّ ما حدث في تلك الجلسة من أحداثٍ ثم يزيدُ عليها من عنده!
*********
كان ( بدر ) قد طرح أختَه أرضاً في نفس اللحظة التي فتحَتْ أمُه فيها البابَ ؛ يا لها من مصادفةٍ !
كان يعلم أن أمّه ستتنبّه إلى ما حدث عاجلاً أو آجلاً , ولكنّه قرر التمادي في الانشغال بهذه اللحظة عما بعدها , وعندما طلبت منه أن يدنو منها ليستقر في حجرها كما كانتْ تفعلُ به قبلَ أربع سنين , أطاعها بلا نقاش , وعندما بدا أن فرشاة الشعر واقعة لا محالة على ردفيه العارييْنِ , جاءه السؤالُ _ أسرع بكثيرٍ مما توقع ! _ :
- " كيف تصادف أنك توقع أختَك أرضاً في نفس اللحظة التي أفتح فيها البابَ ؟ ثمّ لماذا لم تبدأ هي في الولولة وشكواك إليّ كما تفعل في كلّ مرة تسيء فيها إليها , _وإن كان ذلك قد توقف قبل أربع سنين لأكون محقة _ ؟ "
- " إمم ... لقد كانَتْ مصادفةً كما ذكرْتِ ! "
وقعَتْ فرشاةُ الشعرِ على مؤخرتِه كعقابٍ على كذبِه , ولكنّ أمَّه فطنَتْ إلى أنها لو كانَتْ محقَّةً في حدسِها فهذا هو آخر شيءٍ سيدفع ابنَها للتخلي عن الكذب ! فسألَتْ في هدوءٍ :
- " هل تعمَّدْتَ أن يتصادف طرحك لأختك أرضاً مع مجيئي من العيادة ؟ "
جاء الردّ ملتوياً :
- " أنا لم أفعل شيئًا مصطنعًا يؤذي ( سوسن ) ! "
كانتْ هذه هي الإجابةُ التي توقعَتْها ( بهية ) ؛ صغيرُها الذكيّ يحاول أن يتلاعب بالكلمات حتى لا يكذب وفي نفس الوقت لا يخبرها بالإجابة ؛ إنه بسبيلِه لأن يصير في مثل ذكاءِ أمّه !
ولكنْ حتى ذلك الحين فلا يزال ذكاؤها يفوق ذكاءه بكثير , فسألَتْه :
- " هناك شيئان وقع عليهما النفيُ في جوابِك ؛ الأول هو كون ما فعلْتَه مصطنعاً , وهو ما سألْتُ عنه , والثاني هو كون ما فعلْتَه يؤذي ( سوسن ) وهذا شيءٌ لم أسأل عنه , وبما أنّك نفيْتَ وقوعهما مجتمِعَيْنِ فأنت لم تنفِ وقوعَ ما سألْتُ عنه تماماً ؛ ولذا فسأكرّر السؤالَ في صيغةٍ أخرى : هل ما فعلْتَه كان مصطنعاً ليتوافق مع دخولي إلى البيتِ _ سواءً تأذَّتْ به ( سوسن ) أم لا _ ؟ "
- " في المعتاد لا يفطن أحدٌ إلى هذه الألعاب اللفظية ! "
- " ومن تعتقد أنه أورثك هذه القدرة على الألعاب اللفظية ؟ لقد كنْتُ بطلةَ العالم فيها ! والآن : إجابةَ السؤالِ رجاءً ! "
- " حسناً , لقد اتفقنا جميعاً على أن نرتب هذا المشهد ليتصادف مع دخولِكِ إلى المنزل ! "
جاء الصوتُ الأنثوي من خلف الباب خافتًا :
- " أيها الوغد ! "
لم تتمالكْ ( بهية ) نفسَها من أن تفكّر : ( تماماً كما فعلَتْ ( سنية ) ! صدق من قال : ما أشبه البنتَ بخالتِها ! ) . ثم رفعَتْ ( بهيّةُ ) صوتَها :
- " ( سوسن ) ! كفّي عن التجسس على أخيكِ . وافتحي الباب وادخلي "
دخلَتْ ابنة الثامنة عشرة وهي تتظاهر بالانصياع التامّ لأمّها التي فطنَتْ لأول مرة أن حبَّها لابنتها ربما قد يكون أعمى عينيها عن شقاوتِها التي تخفيها خلف قدرتِها الفائقة على التمثيل . ثم قالَتْ :
- " ما الذي كنْتِ تفعلينه قبلَ قليلٍ ؟ "
ردّ ( بدر ) بدلاً من أختِه :
- " إنه لم يكنْ تجسّسًا عليّ ! "
فأجابَتِ الأمّ :
- " صدقْتَ ؛ لأنكما اتفقْتما على أن من حقِّها أن تشاهد عقابَك من ثقب الباب , والتجسس لا يكون بموافقة المتجسَّس عليه ؛ هلا كففْتَ عن التذاكي حتى أسمع اعترافَ أختِكَ بذنبِها ؟ "
ثم نظرَتْ ( بهيّة ) إلى ابنتِها التي إما أنها تجيد التمثيلَ إجادةً فائقةً أو أنها بالفعل على وشك أن تخبر أمَّها بكل شيءٍ , وتطلعها على الحقيقة كاملةً , فقالَتْ ( سوسن ) :
- " لقد كان ( بدر ) يقول إنني طفلة مدللة , وأنني لم أتعرض يوماً للعقابِ على يديكِ كما فعل هو , فقلْتُ : إنّ هذا راجعٌ إلى شقاوتِه وأنني فتاةٌ مؤدبة , فقال لي : إنه مستعدّ لأن يظهر لي عمليًّا أن الأمر راجع إلى التفضيل على أساس الجنس , وأنّنا لو قمنا بنفس الفعلِ لعاقبْتِه على فعلَتِه , وصفحْتِ عني , فقلْتُ له : لم يعدْ هناك سبيلٌ لإثباتِ ذلك الآن , فقد كبرْنا ولن تعاقبي أحدَنا في هذا السنّ , فقال : إنه مستعدّ لإثبات أنه لا يزال عرضةً للعقاب حتى وهو في هذه السنّ , وسيثبتُ لي عمليًّا أيضاً هذا الأمر , ثم بعد ذلك بإمكانِنا أن نتفق على عمل " شقيّ " نقوم به معاً وينكشف أمرُنا معاً وسأرى حينها _ والكلام له _ كيف ستعاقبينه وحدَه وتتجاوزين عنّي ! "
كان هذا هو دور ( بدر ) لينظر شزرًا لأختِه التي خطَتْ خطواتٍ كبيرة في الإفصاح عما حدث ....
كانت ( بهية ) تضحكُ في داخلِها من تشابه فعلهما مع ما فعلَتْه هي وأختُها في الماضي, بينما تحاول في الظاهر أن تتظاهر بالصرامة والاستياء مما فعله المراهقان , وقالَتْ وهي تجاهد الضحكَ :
- " فوفقاً لهذا المخطط فقد كان عليّ أن أصَدِّق أن هذا الأمر غير مفتعلٍ , وأعاقب ( بدراً ) عقاباً كاملاً , فيثبت لكِ أنكما لا زلتما عرضة للعقاب , ثم فيما بعد تقومان بما يوجب العقاب فإن عاقبْتُكما معاً فلا يوجد تفضيل على أساس الجنس , وكل ما مضى في حق ( بدر ) ولم تتعرضي له أنتِ كان مستحقًّا , وإن اقتصر العقابُ عليه فأنا ظالمة ؛ أفضِّل ابنتي على ابني ! هل هذا هو الدافع وراء ما فعلْتماه ؟ "
قال ( بدر ) :
- " ليس بالضبط ! "
كان هذا هو دورُ ( سوسن ) لتنظر شزراً لأخيها , وإن كانَتْ أمّهما تعلم من البداية أنّ وراءَ هذا الفعلَ ما هو أبعدُ من " التجربة العملية لوجود تمييز على أساس الجنس في أسرة ذات عائل واحد هي الأم " , أو أيًّا تكنْ تبريراتُ صغيرَيْها لدوافعهما ...
فتوجَّهَتْ ( بهيّة ) بالسؤال لابنِها :
- " فما هو الدافعُ بالضبطِ إذن ؟ "
- " هل لي أن أقْحِمَ فرويد في الموضوع ؟ "
- " لا ! "
- " حسناً , فلنجرِّبْ شيئًا آخر : لقد كان عقابُكِ لي _على الرغم من ظاهره المكروه_ يحمل في طيّاتِه اهتماماً منك بي وبمستقبلي , وأختي _التي لم تتعرض له_ تغار من اختصاصي بهذا الأمر الذي يفترض أن تفرح بعدم مقاساتِها له ! "
- " هذا أفضلُ من إقحام فرويد في الموضوع , وإن كنْتُ قد بدأتُ أقلق من ذكائك ! "
كانتْ ( سوسن ) قد اعتادَتْ هذه الحوارات "الغامضة" بين أمِّها وأخيها , ولكنّ ما شد انتباهها في هذا الحوارِ هو كلام أخيها عن غيرتِها ؛ كان محقَّا في هذه الجزئية , وإن كان ما تغار بسببه ليس بالضبط هو " إظهار الاهتمام والحرص على المستقبل " , لقد كان شيئاً آخر لا تعتقد أن أخاها أو أمَّها لديها أدنى فكرة عنه ؛ ثم من هو فرويد بالضبط ؟! لقد سمعَتْ اسمَه من قبل !
ثم جاءَها صوتُ أمِّها :
- " هل أخوكِ محقّ يا ( سوسن ) ؟ هل تريدين أن أعاقبَكِ ؟ "
- " في الماضي : نعم ! ولكن أين السبيلُ إلى ذلك ؟ , أمّا في الحاضر : فأعتقد أنني أكبر سنًّا من أن تعاقبيني ! "
كانتْ هذه إجابة شاردة تجيب بها التوأمُ بينما توأمُها عارٍ مستلقٍ في حجر أمه وفرشاة الشعر في يد مُعَاقِبَتِه تنتظر أن تهوي على ردفيه ! ولذا قد اقتصرَتْ ( بهيّة ) في الجواب على ابنتِها بالإشارة إلى الجسد الممدد أمام عينيها , فأجابَتِ ابنةُ الثامنة عشرة :
- " ولكنني أكبرُ منه ! "
- " بساعةٍ ؟! "
- " هذا لا ينفي أنني أكبرُ ! "
كان هذا دورُ ( بدر ) ليفقد أعصابَه :
- " فهل تعنين أنه ليس أمامي سوى ساعة واحدة حتى أصل إلى السنّ الذي أكون فيه قد تجاوزْتُ مرحلة التأديبِ ؟!! "
قالَتْ ( سوسن ) :
- " متى قلْتُ هذا ؟! "
تدخَّلَتِ الأمُّ , وقالَتْ :
- " ( سوسن ) يا حبيبتي ! أنتِ _ وإن كنْتِ أكبرَ _ إلا أنك لا تزالين طفلتي الصغيرة التي ينتهي بها الحال _إن أساءَتْ_ على حجْرِ أمِّها تتلقى عقابَها ؛ وقد شارَكْتِ في هذه المسرحية المفتعلة مع أخيكِ , وهذا ذنبٌ كافٍ لحلولِ العقابِ المستحقّ لطفلتي الصغيرة. وسأفرغ لعقابك بعد عقابِ أخيكِ. هل لديكِ اعتراضٌ على ذلك ؟ "
جاء الصوتُ الخافتُ :
- " لا ! "
- " حسنًا إذن ! انتظريني في غرفتِكِ ! "
- " لماذا لن تعاقبيني هنا ؟ "
- " في غرفةِ أخيكِ ؟ لأنه أخوكِ , لا يصحّ أن يراكِ في الهيئة التي سأعاقبكِ عليها ! "
- " ولكنّي أنا أراه في الهيئة التي تعاقبينه عليها ! "
نظرَتْ ( بهيّة ) إلى ابنِها العاري تحت مرأى أختِه , وهمَّتْ أن تقول شيئاً , ولكنّ ( بدراً ) سبقها :
- " المزيد من التمييز على أساس الجنس ؛ وكأنني لا أخجل من رؤية أختي لي عاريًا , بخلافِها هي ؛ ومن ثمّ فليس لي خصوصية لتُحْتَرمَ خلافاً لخصوصيّتِها المُحْتَرَمة ! "
جاءَه صوتُ أمِّه :
- " ( بدر ) , كفّ عن الإجابة بالنيابة عنّي ؛ لأنّ ما ذهبْتَ إليه خاطئٌ . "
كانَتْ ( سوسن ) _على الذي يظهر_ تميل إلى تصديق تفسيرِ أخيها , فسألَتْ في حدّة :
- " فما هو السبب إذن ؟ "
ولمّا سمِعَتْ الأمّ حدّةَ ابنتِها الغافلةِ قرَّرَتْ ألّا تبالي بخصوصيَّتِها _ كما طلبَتْ _ , فقالَتْ :
- " السبب أنني أتذكّر في أيِّ يومٍ من أيّام الشهر القمريّ نحن , وخلافاً لأخيكِ فلن يكون ما أنزعه عنك لأعرّيكِ مقتصراً على الملابسِ ! "
كان هذا دورُ ( بدر ) ليحاول منْعَ نفسِه من الضحك , ولكنّه لم يستطع كبح جماحِ ضحكةٍ انفلتَتْ من شفتيه عندما قالَتْ أختُه في صوتٍ منكسرٍ :
- " سأنتظر في غرفتي ! "
وعندما انغلق البابُ تاركاً الأمَّ وابنَها وحدَهما , لم تضيّعْ ( بهيّة ) وقتًا في إلهاب مؤخرةِ ( بدر ) بالفرشاة , ووصل صوتُ الصفعات والصرخاتِ إلى ( سوسن ) المتوجّهة إلى غرفتِها فأذهبَ بعضَ حرجِها الذي كانتْ تجده , وابتسمَتْ في رضا ؛ إن كان سيضحك على فطرتِها الأنثوية فلتضحكْ هي على صراخِه الطفوليّ وقد تبدّدَتْ ذكوريّتُه الزائفةُ على يد أمِّه !
وبعْدَ ضرباتٍ كثيرةٍ بفرشاةِ الشعرِ انتهَتِ المعركةُ ونتج عنها انتصارُ الاحمرار وبسطه سلطانَه على كامل الأراضي الاستهيّة , واضطرار ماءِ العين إلى الإبحار خارج القناة الدمعية الواصلة إلى الأنفِ , ليسيل في انسيابٍ على أراضٍ يابسة لم يبحِرْ بها منذ أربع سنين سابقة في مناسبة مشابهةٍ ؛ لأن الذكورَ لا يبكون إلا في حجْرِ أمّهاتِهم فمتى شبّوا عن هذا الحجْرِ امتنع في حقِّهم البكاءُ ... ولكنْ إن عادوا إلى حجْرِ أمّهاتِهم عاد البكاءُ ليكون حقًّا لهم !
وقالَتِ الأمّ لابنِها الذي انشغل بالبكاء عن إدراكِ أنّ عقابَه انتهى :
- " لا أريدُ أن أعود من يوم عملٍ طويلٍ لأجدَك أنتَ وأختُك قد جعلْتما الصالةَ مسرحاً وبدأتما في التمثيل لتريا ردَّ فعلِي , وتكشفا حقيقة ما حدث في الماضي ؛ هذه ليستْ مسرحيّة ( هاملت ) ! "
ومن بين دموعِ المراهقِ جاءَتْ إجابتُه :
- " هذا تشبيهٌ لا بأسَ له ! "
فهوَتِ الفرشاةُ على مؤخرتِه مرّةً أخيرةً فعاد للنحيبِ , وقالَتْ أمّه :
- " ولا أريدُ أن أسمع مزيداً من التذاكي في المستقبل ؛ لقد كنْتُ أعاقبك على مثل هذه الردود المتذاكية قبل سنين , ولا أرى مانعاً من أن تكونَ سبباً في عقابِكَ الآن ؛ أيّ ردٍّ متذاكٍ آخر وستجد نفسَك مباشرةً في حجري والفرشاة قد نابَتْ عن لساني في إقناعِكَ بسخافةِ ردِّكَ . هل هذا مفهوم ؟ "
- " نعم , يا أمي ! "
- " حسناً , هل تذكر كيف كان ينتهي بك الحال في جلساتِ العقابِ هذه قبل سنين ؟ "
- " واقفاً في زاوية الحجرة ! "
- " بالفعل ! إلى الزاويةِ إذًا ! وعندما أفرغ من عقابِ أختِكَ سأعود إلى غرفتِك لأضعكَ في السرير "
قام ( بدر) مخجلاً ليتوجّه إلى الزاوية فطلبَتْ منه أمّه أن يقف أمامَها قبل أن يذهب إلى زاويتِه , ففعل , ثم سألتْه :
- " لماذا تضع يديك أمامَك ولا تضعُهما إلى جانبَيْكَ ؟ "
أجاب المراهقُ العريانُ في خجلٍ :
- " لأسبابٍ منطقيّة ! "
- " هل تريدني أن أقْحِمَ فرويد في الموضوع الآن؟ "
- " لا ! أرجوكِ ! "
- " حسناً , ما الذي ستفعله عندما أغادر الغرفةَ ؟ "
- " سأقف في الزاوية وقد قابلْتُها وعقدْتُ يديّ خلفَ رأسي "
- " ولدٌ مطيعٌ , وما الذي لن تصنعه عندما أغادر الغرفة ولكنّك تتمنى أن تصنعه ؟ "
- " أمّي !! "
- " إلى زاويتِكَ إذًا ! "
تحرّك ( بدر ) حتى استقرّ في زاويتِه , وظلَّتْ ( بهية ) تدرس آثارَ ما فعلَتْه بمؤخرتِه لبضعة ثوانٍ , ثم قامَتْ واقفةً وفتحتِ بابَ غرفة ابنِها لتخرجَ منها , ثمّ فتحَتْ بابَ غرفةِ ابنتِها لتدخلَ إليها , فوجدَتِ الغرفةُ _ الأكثر ترتيباً بكثيرٍ _قد استقرّ على طرفِ سريرِها ملابسُ ابنتِها التي كانَتْ ترتديها وقد رتِّبَتْ في أناقة , وإلى جوارِها _ في حيث يُفْتَرَضُ أن تَجْلِسَ لتعاقبَ ابنتَها _ كانتْ هناك منشفة ممدة , ولكنّ ابنتَها لم تكنْ في الغرفةِ .. وجاءَها صوتُ طرقِ البابِ فأمرَتِ الطارقَ أن يدخلَ , فدخلَتْ ابنتُها وقد أحاطَتْ نفسَها بمنشفة أخرى , ويبدو من بلل شعرِها أنها قد استحمَّتْ للتوّ , وقالَتْ في خجلٍ :
- " بسبب اليومِ القمريّ الذي نحن فيه ... فقد استحمَمْتُ .. ووضعْتُ هذه المنشفة لتجعليها في حجرك حتى لا .... "
قاطعَتِ الأم الروايةَ الحيِيّة لتقول في تدليلٍ :
- " أووه يا صغيرتي . ثمّ تلومينني على أنني لم أعاقبْكِ فيما سبقَ مثلَ أخيكِ ! إنّك ملاكٌ !"
كانَ خجلُ ابنتِها الظاهر في احمرار وجنتيها وتحديقِها في الأرض فوق قدرة الأمّ على التحمّل , فدنَتْ منها واحتضنَتْها وقبّلَتْ خدّها مراراً . ثم قالتْ ( بهيّة ) :
- " ما رأيكِ في أن تعديني بصدقٍ أنّك لن تعودي لإخفاء شيءٍ عنّي وأنّك ستكفّين عن الاستجابة لتحدّياتِ أخيكِ وتشكيكاتِه ... وسأتخلى أنا عن فكرةِ عقابِكِ كما أعاقبُ أخاكِ ؟ "
نظرَتْ إليها ( سوسن ) في خجلٍ , كأنّها تحاول حمْلَ نفسِها على قولِ شيءٍ , ولكنّها لا تستطيع قولَه .. فتذكَّرَتْ ( بهيّة ) ما كانتْ تشعر به وهي في مثلِ سنِّها , فقالَتْ :
- " ولكنْ إنْ كنْتِ تفتقدين إلى وجود الحزْمِ في حياتكِ , وتريدين مني أن أكون مصدرَ الحزْم كما أنني مصدرُ الحنان , فعلى الرحب والسعة .. "
هزّتِ المراهقةُ رأسَها في لهفةٍ , ولا يزال بصرُها معلَّقًا بالأرض , فحلّتْ أمُّها منشفتَها وتركتْها تهوي على الأرضِ , ثم سارَتْ بابنتِها الخَجْلى العارية إلى السرير فجلسَتْ عليه ووضعَتِ المنشفةَ في حجرِها ثم جعلَتِ ابنتَها في نفسِ الموضع الذي كان فيه ابنُها قبل دقائق , ولمّا استقرّ بها المجلسُ , قالَتْ في حزْمٍ مفتعَلٍ :
- " هذه أوّل مرةٍ أعاقبكِ فيها , وأرى أن الذنب ليس بهذا العِظَمِ , ولهذا سأكتفي بيدي هذه المرّة . ولكنْ في المرّاتِ القادمة توقّعي أن تكون يدي مستعينةً بفرشاة الشعر وليستْ منفردةً . هل هذا واضح يا صغيرة ؟ "
- " نعمْ يا أميمتي ! "
- " حسناً إذن ! "
لم تكنِ الضرباتُ موجعاتٍ إلى هذا الحدّ , ولكن ( سوسن ) لم يكنْ لها سابقةٌ في التعرض للعقاب على يد أمّها ولا على يدِ أبيها قبلَ وفاتِه , ولذا فقد كانَتْ تلك الصفعاتُ المتسارعاتُ سببًا في أشدّ ألمٍ مرَّتْ به في حياتِها , ولم يستغرقِ الأمرُ طويلاً حتى ارتفع صوتُ بكائها مقروناً بتعهداتِها بأن تكون " فتاةً صغيرةً لطيفةً مطيعةً , تسمع الكلام " , ووصلَ صوتُها إلى أخيها في زاويتِه , فأدار عينيه في محجرَيهما في سخريةٍ !
ورأتِ الأمّ احمرار ردفِها وسمعَتْ صوتَ بكائها فقرَّرَتْ أنّ ابنتَها قد نالتْ كفايتَها , وكفّتْ عن ستْهِها , وبدأتْ في التربيتِ على مؤخرتِها وظهرِها حتى تهدأ , ثم استدعَتِ الأمّ سؤالَ الجدّ الذي سأله للأم والخالةِ قبل ثلاثين سنة وهما في موضع مشابهٍ لموضع الابنةِ , فقالَتْ :
- " هل تعلمْنا درْسَنا ؟ "
فأجابَتْ صغيرتُها المدلّلة من بين شهقاتِها بالبكاء :
- " نعم , يا أميمتي ! ولن ترَيْ مني بعد ذلك إلا ما يرضيكِ .. "
فأنهضَتْها ( بهيةُ ), وعانقَتْها, وقبّلَتْ خدّيها, ثم وضعتْها عريانةً في سريرِها لتنامَ , ثم تذكّرَتْ شيئاً , فقالَتْ :
- " ستحتاجين واحدةً أخرى . أليس كذلك ؟ "
فأشارتْ ابنتُها في حياءٍ إلى الجانب القصيّ من السرير , فرأَتْ أمُّها أنّها قد أعدَّتْ ذلك أيضاً , وقرَّرَتْ أنه قد مضى وقتٌ طويلٌ منذ أن ألبسَتِ ابنتَها أو ابنَها واحدةً من هذه الأشياء , فأمرَتْ صغيرَتها أن ترفع رجليها في الهواء , فازداد حياءُ صغيرتِها ... وعندما فرغَتْ أمّها من مهمّتِها كان منظرُ ابنة الثامنة عشرة يذوب له قلْبُ أقسى الناس , فمالَتِ الأمُّ على جبين طفلتِها وقبّلتْه , وقالت :
- " تصبحين على خير , يا حلوة ! "
- " تصبحين على خيرٍ , يا أميمتي ! "
ثم انصرفَتِ الأم للمراهق الآخر الذي لا يزال منتظراً في زاويتِه , فأخرجتْه منها ووضعَتْه في سريرِه وسألَتْه مثلَ سؤالِها لأخته فأجاب مثل إجابتِها ...
وخرجَتْ من غرفتِه وهي لا تجهل ما سيفعله بمجرد خروجها , ولكنها كانتْ تجهل تماماً أنّ " طفلتَها وصغيرتَها " قد صنَعَتْ نفس ذلك الفعل _ مما لا علاقة له بأفعالِ الأطفال ولا الصغيراتِ _ بمجرّد خروجِ أمّها من غرفتِها وتوجّهها لغرفة أخيها !
وكلاهما لم يكنْ يخطر لهما ببالٍ أن أمّهما هي الأخرى قد لجأَتْ إلى غرفتِها لتمارس نفس الفعل , وكأنّ الأسرة كلّها قد تملّكها دافعٌ واحدٌ وإرادةٌ واحدةٌ فهي منشغلة في ممارسة فعلٍ واحدٍ تلْهِبُهُ شعلةُ ذكرياتٍ واحدةٍ لحادثةٍ حدثَتْ قبل دقائق وتضمنَتْ يداً وفرشاةَ شعرٍ ومؤخرتَين !
**************
3- أمَا وقد وقع !
_____________________________
طلع الصباحُ ..
وأرادَ المنبّه أن ينبّه الدكتورة إلى ميعاد ذهابِها لعملِها , ولكنّه تذكّر أن اليوم هو يوم الإجازة فكفّ عن الرنين بمجرّد أن بدأ فيه , أو للدقة فإنه لم يتذكّر وحدَه , ولكنْ ما دفعه للتذكر كان تنبيهاً بسيطاً من إصبع الدكتورة الوسنانة على زرٍّ فيه !
ومرّ وقتٌ طويلٌ حتى ارتفع صوتٌ آخرُ في الغرفةِ ؛ طرقاتٌ على البابِ الذي نادراً ما يُطْرَقُ .. لأن صاحبة الغرفة تستيقظ في المعتاد قبل صغيرَيها لا بعدَهما ...
كادَتْ تجيبُ الطارقَ وتطلب منه أن يدخل ؛ لكنّها تذكّرَتْ في اللحظة الأخيرة أنها لا ترتدي شيئًا بسبب نومها البارحة مرهقةً بعد صولاتٍ وجولاتٍ لمْ تحتج فيها إلى ارتداء شيءٍ ... ولذا فقدْ عدّلَتْ إجابتَها للطارق من الدخول إلى قولِها :
- " لحظة واحدة ! "
نَهَضَتْ مسرعةً من السرير , وارتدَتْ روبَها ثم فتحَتِ البابَ بنفسِها , فوجدَتْ ابنَها وابنتَها معاً , وهما يحملان أطباقاً فيها ما يبدو أنه إفطار , وابتسامتهما تغطي وجهيهما , سألتِ الأمّ في دهشة غير مصطنعة :
- " هذا لي ؟ "
أجاب ( بدر ) في حماسٍ :
- " كنوعٍ من الشكر على الجهد المبذولِ في تربيتِنا ورعايتِنا وحدَكِ بلا شريكٍ طيلةَ هذه السنين ! "
أضافَتْ أختُه التي لم تفطِنْ إلى التجريد الذي ذهب إليه أخوها :
- " وبصورةٍ خاصّةٍ على ما قمتِ به البارحةَ مِن ... "
جذب أخوها كمَّ قميصِها لِينبّهها إلى أنّ ما فعلَتْه أمّهما البارحة لا يفترض أن ينتهي بشكرِهما لها , على الأقلّ ليس بهذه الفجاجة !, ولم تغفلْ أمُّه عن فعلِه , فابتسَمَتْ , بينما ( سوسن ) لا تزال لا تفهم ما يريده أخوها , وقالتِ الأمّ :
- " وماذا عنكما , هل أفطرْتُما ؟ "
أجابَتْ ( سوسن ) :
- " لا تشغلي بالكِ بنا ؛ نحن لم نَعُدْ طفْلَين ... لقد صنعْنا إفطارَنا قبل ساعةٍ من الآن ! "
- " من رآكما البارحة لشكّ في صحّة هذا النفي شكّاً كبيراً ! "
ثمّ نظرَتْ إلى ابنِها وأضافَتْ :
- " هل ساعدْتَ أختَك في إعداد هذا , أم تركْتَها تعدّ كل الطعامِ وحدَها ؟ "
أجابَتِ الأختُ مدافعةً عن أخيها :
- " لقد سخّن الخبزَ , وعَصَر العصير ! "
فكرّر أخوها :
- " لقد سخّنْتُ الخبزَ , وعصرْتُ العصيرَ ؛ لو كنْتُ أحْسنُ صنع شيءٍ آخرَ لفعلْتُه ! "
ابتسَمَتْ ( بهيّة ) , ثمّ ذَهَبَ ذهْنُها إلى شيءٍ آخرَ :
- " ذكرْتِ أنّكما أفطرْتما قبل ساعةٍ .. كم الساعة الآن ؟ "
- " العاشرة ! "
حدَّقَتْ الأم في ذهولٍ ؛ إنها لم تنم حتى العاشرة منذ سنين !
فأضافَتْ ابنتُها :
- " في الواقع لقد كنا نريد أن نجعله إفطاراً إلى السرير , كما في الأفلام الأجنبية , ولكنّ ( بدر ) أقنعني ألا ندخلَ حتى نستأذن ! "
نظرَتْ ( بهيّة ) إلى ابنتِها , وعقلُها يصوِّر لها ما كان ليحدث لو دخلا بدون استئذانٍ , ثم قالَتْ :
- " جيّدٌ أنكِ استمعْتِ إلى نصيحةَ أخيكِ ؛ على أيّة حالٍ : ما دمْتما قد أفطرْتما , وهذا الطعامُ يبدو شهيًّا , فسأستحوذ عليه "
وتلقَّتِ الأطباقَ من ( بدر ) و ( سوسن ) , ونقلَتْها إلى غرفتِها , ثمّ أغلقَتِ البابَ وهي تبتسم , وكأنها تمنعهما من مشاركتِها في إفطارِها !
ووقف المراهقان أمام باب غرفةِ أمِّهما المغلق مبتسمَيْن , ثمّ قال ( بدر ) لأختِه في خبثٍ :
- " أرأيْتِ : لقد أحْسَنْتُ عندما أقنعْتُكِ بأن نستأذن ! "
أجابَتْ الأختُ :
- " لا زلْتُ لا أدري سببَ ذلك ؛ لطالما كنْتُ أدخل غرفة أمي بدون استئذان ! "
- " ولكنّ هذا اليوم بالذات مختلفٌ ! "
- " مختلفٌ في ماذا ؟ "
- " ما الذي فعلْتِه البارحةَ بعد أن فرغَتْ أمّكِ من عقابكِ ؟ "
كان اندفاع الدم لوجنتيها إجابةً كافيةً , فأكمل ( بدر ) :
- " وكذلك الحال معي , وإن كان حدسي صادقاً , ونادراً ما يخيبُ , فإن أمَّنا كانتْ هي الأخرى تقوم بنفس الشيءِ ! "
لم تجبْ ( سوسنُ ) بشيءٍ , فجاءها صوتُ أخيها العابث :
- " هل تريدين أن تشتركي في مسرحية أخرى نستعين بها لإثباتِ صحّة ما ذهبْتُ إليه ؟ "
ردَّتْ ( سوسن ) :
- " لقد حذّرتني أمي من ألاعيبكَ هذه ! "
- " حسناً , لا داعي لأن تفعلي , ولكنّكِ لن تعرفي _ يقيناً _ ما إذا كانتْ أمّكِ تتوق لأن تعقابَنا كما نتوق لعقابِها لنا حتى توافقي على الاشتراك في المسرحية ! "
كان الفضولُ _ على الذي يظهر _ أكبرَ من أن تدفعه المراهقة , فقالَتْ في صوتٍ مستسلمٍ :
- " هاتِ تفاصيلَ المسرحية ! "
- " حسناً . إنّ الأمر بسيطٌ ؛ كلّ ما علينا فعلُه هو أن نكْتُبَ قصَّةً حمقاءَ ونضمنها عقاباً شبيهاً بعقابِنا الذي نتعرض له , ولكننا نجعلُ من يجري العقابَ امرأةٌ غريبةٌ لا تربطها بالمعاقَبِ صلةُ قرابةٍ , ثم نصف استمتاعَها الجنسيّ بعمليّة المعاقَبَة .. ثم تذهبين بهذه القصّة _ التي تدّعين أنكِ وجدْتِها " صدفةً " في حاجيّاتي _ إلى أمِّك , وأنّكِ قرأتِها من باب الفضول وراعكِ ما وجدْتِه فيها ؛ فتضطر أمّكِ أن تقرأها , ثم تراقبين أنتِ ردَّ فعلِها أثناء القراءة وتستنتجين منه حقيقةَ أمْرِها ... "
- " تبدو خطّةً جيّدةً .. متى سنكْتُبُ هذه القصّة ؟ "
- " لماذا تتوقعَيْنَ أني لم أكتبْها بالفعلِ ! "
انفتح بابُ غرفةِ أمِّهما فجأة وجاءَ صوتُها هادراً , ولكنّ حدس ( بدر ) _الذي نادراً ما يخطئ _ أخبره أن هذا الغضبَ مصطنعٌ :
- " حسناً , كلاكما قد تجاوزْتما كلَّ خطٍّ أحمرَ ممكنٍ , وستتعرضان لأشد عقوبةٍ .... ( بدر ) ! اذهبْ وائتني بتلك القصة التي ذكرْتَها حتى أرى مقدار الدناءة التي ذهب إليها فكرُكِ , وأنت يا متظاهرةً بالبراءة , ائتيني بفرشاة شعركِ , فقد انكشفَ لي تمثيلُكِ وما وراءه من مشاغبة ... أتتهمانني بالتلذذ بعقابكما ؟! إلى هذا الحد ؟! "
حاول ( بدر ) أن يمنع نفسَه من هذا السؤال العابث, ولكنّه أخفق , وسأل _وكأنّه هرّ يحاول اختلاس قطعة سمكٍ_ :
- " هل لنا أن نُقْحِمَ فرويد في الموضوع ؟ "
وفي ركْنِ فمِ أمّه ارتعشَ شبحُ ابتسامةٍ لا يكاد يُرى بالعين المجرّدة , ولكنّ عيناً خبيرةً كعين ( بدر ) كانتْ قادرةً على التقاطه , وكان ذلك كافياً لإثباتِ صحة شكوك المراهق , وأنه بالفعل قد وقع على سرّ أمِّه ... وجاهدَتْ ( بهيّة ) لتجيبَ في غلظة :
- " عندما أفرغ من مؤخرتِك ستنسى من هو فرويد هذا , والآن اذهبْ وائتِ بالقصّة ! "
جاء صوتُ المراهق مشبعاً بالشعور بالنصرِ :
- " سؤالٌ أخيرٌ ! "
أجابَتْ الأم في قلقٍ , وهي تحاول أن تدرك سبب انتشائه :
- " ماذا ؟ "
- " لماذا تعتقدين أننا خضنا هذا الحوار بصوتٍ مرتفع على بعد سنتيمتراتٍ من باب غرفتِك , ولم نرجئه حتى نذهب إلى غرفة أحدِنا أو إلى أبعد مكان ممكن من غرفتِك ؟ "
أسْقِطَ في يدي الأم , ونظرَتْ جهةَ ابنتِها , فرأتْ في عينيها شبح اعتذارٍ على المشاركة في مسرحية ثانية لخداع أمِّها في أقل من أربع وعشرين ساعة , وقالَتْ الابنة :
- " آسفة يا أميمتي ! ولكنّ فضولَ المعرفة كان أقوى مني ! "
- " متى رتبْتما كلّ هذا ؟ "
أجاب ( بدر ) :
- " عندما استيقظْنا في نفس الوقتِ تقريباً , وتقابلْنا صدفةً أمام باب الحمّام وكلانا يحمل ثياباً جديدة ليرتديَها بعد أن يغتسل ؛ لقد جرّ هذا حواراً متوقعاً حول السبب المفاجئ الذي دفع كلينا للاغتسال في نفس الصباحِ , وما إذا كان له علاقة بما تعرضنا جميعاً له في الليلة الماضية , وبعد مدافعة طويلة اعترفَتْ ( سوسن ) بسرِّها , فأردْتُ طمأنتَها إلى أن جميع من في الشقة يشاركونَها هذا السرّ بما فيهم من أجْرَتِ العقابَ ... ثم جرّ شيءٌ شيئًا حتى اتفَقْنا على هذه المسرحية الهاملتية لكشفِ سرّ الفرد المتبقي الذي لم يعترف بسرّه في هذا البيت "
نظرَتْ الأمّ إلى ابنِها , وقالَتْ في استياءٍ ممزوجٍ بالإعجابِ فجاء صوتُها يتبرّأ بعضُه من بعضٍ :
- " أنت شيطان عبقريّ ! "
- " بعضُ ما عندكم ! "
- " ما الذي ذكرْناه حول هذه الردود المتذاكية ؟ "
قال المراهق وهو يحاول إخفاءَ لهفتِه :
- " أنها موجِبةٌ للعقابِ ! "
فأجابَتِ الأمّ في خبْثٍ :
- " كان هذا قبل أن نتبادل المصارحةَ بأسرارِنا , أمّا الآن فالأمر يختلف : يوميًّا سيكون هناك عقابٌ ثابتٌ لكلٍّ منكما بدون أن تضطرا لصنع شيءٍ لتستحقاه , ولكنْ إن كانَ في اليوم السابق له إجاباتٌ متذاكية أو عصيانٌ لأوامر أو تقصيرٌ في الدراسة , فإن هذا العقاب اليومي سيتمّ إلغاؤه بصورة تلقائية , وإن كان الذنب ضخماً فربّما نلغيه لمدة يومين أو ثلاثة أو أكثر ... هذا أنجع في تأديبكما على ما أعتقد ... وبناءً عليه : عدْ يا ( بدرُ ) إلى غرفتِك فأنت محرومٌ من العقاب بسبب هذا الرد المتذاكي , وأنتِ يا ( سوسن ) بإمكانكِ أن تنتظريني في غرفتكِ عاريةً حتى أفرغ من إفطاري ثم أفعل بكِ ما تحبينه "
نظرَتِ الحسناءُ إلى توأمِها فوجدَتْه يغلي استياءً , فقالَتْ وهي تجاهد الضحكَ :
- " شكراً يا أميمتي ! هل لي أن أشفع لديكِ في أخي حتى لا تحرميه من العقابِ ؟ "
- " الشفاعة مردودة ! وإن لم يتحرّكْ في هذه اللحظة إلى غرفتِه ويفكّر فيما تسبب في حرمانه من عقابه ويندم عليه , فسيُحْرَم من عقاب الغد كذلك ! "
كانَتْ هذه إشارةُ الانطلاق لـ ( بدر) ليهرع إلى غرفتِه ويغلق بابَها خلفه ؛ على الأقل إن فاتَه عقابُ اليومِ فلا أقلَّ من أن يضمن عقابَ الغدِ !
أما ( سوسن ) فقد سارَتْ بخطواتٍ منتشية إلى غرفتِها ، وأغلقَتْ بابَها ، ثم تعرَّتْ وهي تصوّر لنفسِها ما يوشك أن يتعرض له جلدها البض على يد أمِّها بعد دقائق ... فلم تتمالك نفسَها من أن تعضّ على شفتها في لهفة وتشوق ...
أما ( بهية ) فكانَتْ لذّتُها بتناول الإفطار الشهيّ الذي صنعه ثمرتا بطنِها لذّةً مضاعفةً , لم يكنْ يقدح فيها إلا أن العقاب القادم مقتصر على إحدى الثمرتَين دون الأخرى , ولكنّها مضطرة لحمل نفسِها على تأجيل عقاب ابنِها اليوميّ حتى الغدِ , لكيلا يفسده التدليل , ويتعلم درسَه ؛ هذا هو ما يطلق عليه الحب القاسي ؛ أن تجبر نفسَك على خلافِ ما يريده مَنْ تحبّه وما تريده أنت أيضاً ؛ حتى يتعلم المحبوب درسَه , ولا يُفْسِده التدليل ؛ وهي أمّ صالحة مستعدة لمقاساة صعوبات الحب القاسي إن كان فيه مصلحةُ وليدَيها !
**********
طرقاتٌ على البابِ كأنّ صاحبَها قد تعمّد أن يأتي وقعها متوافقًا مع حركة يد الضابط الصغير صعوداً ونزولاً ...
وما إن طرقَتِ الطرقاتُ مسمعَ ( سالم ) حتى كفّ عما يصنعه , واعتراه الرعبُ , وهو يحاول أن يدس رجليه في بنطال منامَتِه , بينما صوتُ أبيه يأتيه من خارج الغرفة :
- " لماذا هذا البابُ مغلقٌ ؟ "
لم يدْرِ ( سالم ) بم يجيبُ , ولكنّ عقلَه تولّى التفكيرَ في شيءٍ بالنيابة عنه ثم أجاب بالنيابة عنه أيضاً :
- " لأنني خفْتُ أن يفْتَحَه أحدُ الخدم كما اعتادوا , فيقابلُهم ما لم يعتادوا رؤيتَه ! "
فكّر ( سالم ) فيما أجاب به تلقائيًّا قبلَ قليلٍ , فوجد الجوابُ أحوج للتفسير من الفعل نفسِه , ثم فتح البابَ فطالعَتْه عينا والدِه المتسائلتين وسأله , وهو يلج إلى الغرفة :
- " وما الذي كنْتَ تصنعه ؟ "
طلبَ ( سالم ) من عقلِه أن يتولى الإجابةَ ما دام هو من ورّطه في هذه الورطة , فقال لسانُه من عندِه :
- " لأنني نظرْتُ في المرآة إلى آثار عقابِ ليلة البارحة فراعني أنها لا تزال جليّة واضحةً , فأردْتُ أن أزيلَها بفركٍ أو بتهويةٍ أو بنضْحٍ بماءٍ , فخفْتُ أن يفتحَ أحدٌ الباب فيرى ذلك ! "
فكّر ( سالم ) فيما قاله , فوجده مقبولاً إلى حدّ بعيدٍ ... محرجٌ بعض الشيءِ , ولكنّه مقبولٌ ... قال والده في تعاطفٍ :
- " لقد كنْتُ أظنّك منغمساً في شيءٍ آخرَ ! على أية حالٍ : ما ذكرْتُه في الواقع يذكّرني بما قاله اللورد ( بليذن ) وكنْتُ أنوي أن أفعلَه ولكنّه بدا لي أمراً شديدَ الغرابة فعدلْتُ عن فعْلِه , ولكنْ بالنظر إلى ما ذكرْتَه للتوّ , فأنا أرى أنه مناسبٌ أشد المناسبة ... انتظرْني قليلاً حتى أذهب لغرفتي وأعود ! "
لم يكن ( سالم ) يدري أيَّ مصيبةٍ قادمةٍ ستجلبها عليه نصائح اللورد ( بليذن ) , ولكنّه تذكّر ما فعله به أبوه والبوّابُ ليلةَ البارحة , ثم حضر إلى ذهنِه ما قاله أبوه قبل قليلٍ عن " شدة غرابة" هذه النصيحة الجديدة للورد ( بليذن ) , فوجد الذعر يسيطر عليه ؛ إن كان ما حدث البارحة أقلّ غرابةً مما يوشك أن يحدث , فما الذي يوشك أن يحدث ؟!
لم يستغرقْ ذهابُ ( سمير ) إلى غرفتِه وعودتُه كثيراً من الوقْتِ فقد دخل بعد ثوانٍ وفي يده علبةٌ غريبةُ الشكل تبدو كأنها تحوي مرهماً من مراهم الجلد , ثم أغلق البابَ خلفَه وتوجّه إلى السرير الذي شهد ملحمةَ البارحةِ , وجلس على حافتِه , وأشار إلى ابنِه ليقتربَ , ففعل , ثم أشار إليه ليتمدد في حجره , فبدا الخوفُ في عينيه , فقال الأبُ :
- " إن كنْتَ تعتقد أن ما سأفعله مثيرٌ للخوف فأنت مخطئ , ولكن اعترافاً بالحق فإنه مثير للخجل , على الأقلّ في حقك أنت ! "
كان ( سالم ) لا يزال يجهل ما سيحدث , ولكنه أطاع أمر أبيه , واستلقى على فخذيه وليس عليه سوى بنطال المنامة , الذي سرعان ما أنزلتْه يد أبيه إلى كعبيه كاشفاً عن كلِّ ما تحتَه , وقال الأبُ وهو يدرس تفاصيل المشهد :
- " لقد زالَتْ معظمُ آثار العقاب , ما الذي كنْتَ تشتكي منه بالضبطِ ؟ "
لم يكنْ ( سالم ) قد درس هذه الآثارَ أصلاً ؛ لقد كان العذر كلّه تهرّباً من الحقيقة المخجلة , فقال في توجّس :
- " لقد بدا لي في المرآة أنها لا تزال بارزةً , لعلّ المرآة ضخّمَتْ من هذه الآثار ! "
قال أبوه في سخرية :
- " أو لعلّها مرآة سحرية تريك ما سيحدث وليس ما يحدث , على أية حالٍ : من الآن فصاعداً عندما أعاقبكَ فسأطبق نصائح اللورد بحرفيّتها , وهذه النصائح تشمل ما يسميه هو برعاية ما بعد العقاب , كما ترى فهذا الذي في يدي هو مرهم مخصص للدهن على مؤخرات الأطفال الأشقياء بعد الفراغ من عقوبتهم حتى لا يترك العقاب آثاراً تدوم لفترة طويلة ؛ وهو ما كنْتَ تشتكي منه , على الرغم من أنني لا أرى لشكواك محلاً من الإعراب ! "
كاد ( سالم ) يذوب خجلاً , وقد أدرك ما ينوي والدُه صنْعَه , وسمع صوتَ فتح غطاء العلبة , ثم استقرّتِ العلبةُ على ظهره بعد أن غمس أبوه إصبعه فيها ونقل ما علق بإصبعه من المرهم إلى ردفه الأيمن ثم غمس إصبعه مرةً أخرى وكرر الفعلَ مع ردفه الأيسر ثم أغلق العبوة ووضعها إلى جانبه على السرير , وبدأ في نشر المرهم وتدليك ما نُشِرَ المرهمُ ليغطيه , فازداد خجلُ ( سالم ) , وهو يدافع رغبتَه في أن يجعل قماش بنطال أبيه نائباً عن يده فيما كانتْ تفعله عندما طرق أبوه البابَ , وعادَتْ مخاوفُه من أن يفتضح أمرُه لتشغل عقلَه , ولم يكن أبوه أفضلَ حالاً , فقد كان يعاني مما يعاني منه ابنُه , وقد بدا له أنّ علة " تذكر المرحومة " هذه لا يمكن أن تطّرد كل هذا الاطّراد مع رؤية ردفَي ابنِ المرحومة !
وانشغل الأب وابنُه لدقائق _بدَتْ كدهورٍ_ في ضمان التطبيق الحرفي لنصائح اللورد , فلما بدا أن المرهم قد انتقل إلى كلّ بقعة ممكنة من مؤخرة ( سالم ) , وأن الأبَ لو استمرّ في تدليك مؤخرة الابن لمزيدٍ من الوقتِ لتحوّل إلى دلّاكٍ في حمام , تجرّأ الأبُ , وسأل :
- " هل تعتقد أنّ علينا _ نظراً لنجاعة هذا العقاب كما أشار اللورد ( بليذن ) _ أن نضمن وجود من يُوقِعُه عليك في كل لحظة تحتاج فيها إليه ؟ فأنت تعلم أنني كثيرُ الأسفارِ , ونادراً ما أكون في القصر , وأنت بحاجة كـ " غلامٍ " شقيّ إلى من يتولّى عقابَك حتى لا تنسى نفسَك وتظنّ أنك كبرْتَ على التقويم والتهذيب ! "
- " أعتقد أنّ بإمكانِكَ أن توكّل بي من يدوّن عليّ أخطائي , ثم تعاقِبُني عليها جملةً واحدةً عندما تعود من سفرِك ! "
- " هذا يتعارض مع نصيحة اللورد بتقريب زمن العقوبة من زمن الذنب , وبالنظر إلى أن البوّابَ قد عاقبَك بالفعلِ البارحةَ , وأبدى كفاءةً بالغةً _ وهو الذي لم يعتمد على غيرِ يده , فما بالك لو استعمل فرشاة شعرٍ أو حزامٍ ؟ _ في عقابِك , فأنا أرى أنه من المناسب أن أوكّله بإجراء العقاب عندما أغيبُ عن المنزلِ . ما رأيُك في هذا ؟ "
كان في انقباض ردفي ( سالم ) بمجرّد سماعِه الاقتراح ما يشير إلى صحّة رأيِ ما ذهب إليه الأبُ , وأنّ البوّاب كفيلٌ بإنزال الابن المشاغب منزلتَه التي يستحقّها , فقال الأب في صرامةٍ :
- " أعتقد أنّه لا معنى لطلب موافقتِكَ ؛ ما دمْتُ أنا أرى أنّه جديرٌ بتحمّل هذه المسئولية فهو كذلك , بالمناسبة : بما إنني مضطر للسفر غدًا , فستشهد هذه الليلةُ أولى جلساتِ عقابِك التي يتولّاها البوّابُ بالكامل ؛ وسأكون شاهداً عليها لأضمنَ أنك ستعامله بما يجب من الاحترام , وأنه لن يتوانى في بلوغ الأثر المطلوب في عقابِك "
كان "بلوغُ البوّابِ للأثر المطلوب" قد تحقق بمجرد تخيّل الأب لمشهد ابنِه وحيداً في غرفتِه وليس عندَه غير البوّابِ , وقد عرّاه البوّابُ وقوّسه على فخديه ، وأهوى بيده على مؤخرتِه ليعاقبَه , وكانتْ نفسُ هذه الصورة المتخيلة تلحّ على عقل الابنِ كذلك , وتكاد تدفعه إلى الانفجار والافتضاح أمامَ أبيه , وهو يكبح جماحَ نفسه بمشقة وجهد جهيد , وإن كان لا يشكّ أن تحوّل تلك الصورة المتخيلة إلى حقيقة _وهو ما يبدو أنه سيحدث قريباً _ سيؤدي _ مهما حاول أن يدافع نفسَه _ إلى الانفجار في حضْنِ معاقبِه, وضياع كلّ ما تبقى له من هيبةٍ , إن كان قد تبقى له منها شيءٌ !
كانَتْ هذه الأفكار تدفع الأبَ والابنَ إلى ما لا يصحّ أن يطلع أبٌ على ابنه وهو يصنعه ولا العكس , فقرر الأب أن يخلو بنفسِه في غرفتِه ليقضي حاجتَها , وهو يعلم أن ابنَه سيفعل نفسَ الشيءِ , فقال في صوتٍ متهدّجٍ :
- " نتقابل في جلسة عقابِ الليلة إذاً ! "
قال الابن في صوتٍ لا يقل تهدجاً :
- " حسناً ! "
ثم قام الابن من اضجاعه في حضن أبيه , وقام الأب كذلك , وغادرالأبُ الغرفةَ وأغلقَ بابَها وراءَه ثم هرع إلى غرفتِه ... فلمّا أغلقَ بابَها كانتْ تلك إشارةُ البدء ليغوص عقلُه غوصاً في صور متخيَّلاتٍ مستعذبَاتٍ تشمل بوّاباً وابنَ باشا وقد تبادلا المكانة والحقوق والواجباتِ , ولم يملكِ الباشا نفسَه فبدأ في حل بنطاله والانشغال بما كان ابنُه يصنعه عندما طرق بابَه قبل قليلٍ ...
أمّا الابنُ فكان قد سبق أباه _ بحكم قرب خلوّه بنفسِه _ إلى التخيّل والتصوّر ؛ صوّرَتْ له نفسُه مشهدَه البارحة وقد صار فريسةً وصار البوابُ صياداً , والصياد مولعٌ أيَّ ولعٍ بفريستِه .
ثم تصوّر ما سيقع له هذه الليلة _ على مشهدٍ من أبيه _ على يد ذلك الصياد الذي لا يبالي أنّ وليّ نعمتَه يراه وهو يكاد ينهش لحمَ ابنِه نهشاً من شدة ولعه به .
ثمّ تصوّر ما سيحدث له على يد الصيّاد عندما يسافر أبوه وتخلو له الساحة ليصنع به كلّ ما يحبّه ؛ هل سيقتصر حينَها على عقاب اللورد ( بليذن) فقط ؟ أم سيزيد "عقوباتٍ" أخرى من عنده ؟...
ولم يمضِ كثيرٌ حتى كان الأب والابن جميعاً قد بلغا غايتَهما وفترَتْ يداهما عما كانتا تصنعانه , واستلقيا _ كلٌّ في سريره _ وهما يلهثان لهاث من قضى اليومَ في زرْعِ أرضٍ وحرْثِها ...
وغير بعيدٍ عن سرير الباشا وسرير ابن الباشا , كان مَنْ يُوشِكُ أن يصيرَ المعاقِبَ الرسميّ لابن الباشا مشغولاً هو الآخر بتمني أن تتاح له الفرصةُ ليكرِّرَ بابن الباشا ما صنعه به أمام أبيه ؛ غير عالمٍ بما تقرّر بالفعل بين الباشا وابنِه ... ولم يكنْ يتصوّر أن تلك الأمسية ستحمل معها تحقُّقَ كلّ أمانيه وزيادةً ... ولم يكنْ يتصوّر أنه على مدار سنين قادمة ستكون مؤخرة ابن الباشا _بأمر الباشا نفسِه _ متاحةً على حجره في أيّ وقتٍ يرى فيه أن صاحبها قد فعل ما يوجب العقابَ ...
بعد تلك الأمسيّة بأيامٍ سيفكّر البواب في أنّ هذه الدنيا لم تكنِ _يومًا _ مكاناً سعيداً لِمَنْ وُلِد في مثل ظروفه, ولكنّ هذه الدنيا قد اعتذرَتْ وأخلصَتْ في الاعتذارِ بهذه الهدية الضخمة التي رمَتْها في حجره _ حرفيًّا _ , وهو راضٍ عن الدنيا وراضٍ عن هديّتِها , ومنفّسٌ عما بقي في نفسِه من سخطٍ على هذه الدنيا في صورة صفعاتٍ تهوي على تلك الهديّة الحسناءِ , فتشفي تلك الصفعاتُ نارَ صدرِه وتوقد نارًا أخرى في مكانٍ آخر من جسده في الوقت نفسِه !
**********
- " ما الذي حدث للبنتَينِ يا ( سالم ) ؟! ما الذي صنعْتَه بابنتيّ ؟! هذا ليس معسكرًا لأمن الدولة , هذا بيتٌ تسكنه حمامتان لا تحتملان الصراخ بله الضرب ! "
نظر ( سالم ) إلى زوجتِه الباكية , وهي تحاول تجاوزَ زوجِها لتدخل إلى غرفةِ ابنتيها لتطمئنّ عليهما , فقال ( سالم ) وهو يحاول ألا يغضب مما تتهمه به :
- " إن الحمامتَينِ هما من طلبتا أن أفعل بهما ما فعلْتُه , هذا لم يكن عقاباً لقد كان أقربَ إلى الثوابِ ! "
نظرَتْ له زوجتُه في ذهولٍ , وقالَتْ :
- " هلْ جنِنْتَ : من الذي يرغبُ في مثل هذا ؟ لقد سمعْتُ بكاءَهما من وراءِ الباب , هذا بكاء من يتألم ولا يرغب في شيءٍ أكثر من انتهاء ما يسبّب ألمَه ! "
- " إن الأمر معقّد ؛ صدقيني أنا أعلم الناس بدوافع ابنتيّ , ولو دخلْتِ عليهما الآن , لوجدْتِ ما لا يسرّكِ ! "
- " سأجد ما لا يسرّني من آثار ضربِك وقسوتِك عليهما ؟ "
- " بل من آثار ما تصنعانه بنفسيهما في هذه اللحظة ؛ لماذا لا تعودين للإنصاتِ إلى ما يحدث في غرفتِهما فتسمعي بنفسك ؟ "
كانتْ الزوجة لا تزال في ذهولٍ مما يقوله زوجها , ولكنّها قرَّرَتْ أن تجيبه إلى طلبِه, وألصقَتْ أذنَها بالباب , فبلغَ مسمعَهَا صوتٌ لا شكّ في طبيعتِه , ولم تكدْ تصدّقُ أذنيها عندما تداخل ذلك الصوتُ مع صوتٍ آخر يحمل الدلالة نفسَها ؛ إن ابنتيها الصغيرتين البريئتين يقومان بأفعالٍ يصدر عنها مثلُ هذه الأصوات في حضرة بعضهما البعض ! بعد أقلّ من دقيقة من فراغ أبيهما من عقابِهما الموجِع ! ما هذه الأسرة غريبة الأطوار التي هي جزءٌ منها ؟!
ابتعدَتْ عن الباب , ونظرَتْ إلى زوجِها , وهي تطلبُ منه تفسيراً , فقال في هدوءٍ :
- " هل لي أن أسالَكِ شيئًا : هل عاقبَكِ والدُكِ أو والدتُكِ وأنت صغيرة ؟ "
- " لا ! لم يسبق لي أن عوقبْتُ بهذا المعنى الذي تشير إليه , لقد كان اعتراض أبي وأمي على ما أصنعه يأتي في صورة صراخٍ وسبّ وشتمٍ ! "
- " هل لنا أن نصحح ذلك إذاً ؟ "
نظرَتْ إليه زوجتُه في استغرابٍ , وقالَتْ :
- " تريد أن تعود بالزمن لتنهى أبي وأمي عن شتمي والصراخ في وجهي ؟ "
- " بل أريدُ أن أطْلِعَكِ على ما أثار دهشتَكِ من رغباتِ بنتَيْكِ , لعلك تتفهمين دوافعهَما ! لنفترضْ أنك ابنتي وأنني قد عدْتُ من عملي لأجد أمَّكِ تقابلني معدّدة ما فعلْتِه ومحرّضةً لي على ضمانِ أن تندمي على ما قمْتِ به ... "
قاطعَتْه زوجتُه :
- " هذا شعورٌ ممضٌّ , وإن لم أجرِّبْه "
- " بالضبط أنتِ لم تجرّبيه , ولذا فهو لم يرتبطْ لديكِ بكلّ ما يرتبط به عند مَنْ جرّبه ؛ هناك شيءٌ آخرُ غير الخوف وغير التوجس يخالط نفس المعاقَبِ في تلك اللحظة ؛ الشعورُ بأنّ هناك مَنْ يهتمّ به ويخاف أن يصدرَ عنه ما لا يليق , فهو يعاقبه حتى يحول دون حدوث ذلك ...الشعورُ بأنّ لحظة العقابِ هذه ستخورُ فيها كلّ دفاعاتِه وكلّ الحوائطِ التي بناها ليستَرَ أسرارَه وآمالَه ومخاوفَه عن أعينِ الناس ؛ سيكون عارياً أمام مَنْ يعاقبه .. يجيبُ صادقاً على أسئلتِه , ويتوسّل صادقاً أن يُغْفَرَ له , ويعبّر صادقاً عن امتنانه وتقديره لوجود معاقبِه في حياتِه ... الشعورُ أنّ ما يثقل صدرَه من أخطاء وتجاوزاتٍ قد عوقبَ عليه فلم يعد هناك معنىً لأن يحمل أخطاءَه وتجاوزاتِه على ظهره حتى ينقضّ ظهرُه ... هذا المعنى الذي يخامر نفس المعاقَبِ يزيد كثيراً على التهديد والألم والبكاء .. إنّه شيءٌ في أعماق النفسِ رسخ هناك من زمان البشر الأوّل من قبل أن تنشأ الضوابط والأعراف وتستقرّ التابوهات والمحظورات ! "
نظرَتِ الزوجة إلى زوجِها , ثم قالَتْ :
- " هذا يبدو شاعريًّا , ولكنّه لا يُحْدِثُ فيّ أيّ أثرٍ من أيّ نوعٍ ! "
قال الزوجُ في يأسٍ :
- " أعتقد أن الأمر في الجيناتِ أو شيءٌ من هذا القبيلِ , بعض الناس يرغبون في هذا الفعل أو ذاك وبعض الناس لا يرغبون فيهما ؛ ولكنّ الجميع لديه أسرارٌ ما يخشى إطلاعَ الآخرين عليها ؛ إن البشر قساةٌ عندما يخبّئون أسرارهم ويرمون مكشوفي الأسرار بالغرابة والشذوذ ! "
كانَتْ هذه الجملةُ الأخيرةُ كأنها وقودٌ صُبّ على نارٍ في نفس الزوجة فاشتعَلَتْ , فقالَتْ :
- " ما دمْنا في جولة المصارحة هذه , فإنني أعترف أنني على الرغم من عدم فهمي لما حدث قبل قليلٍ بينك وبينهما , إلا أنني في اللحظة التي خرجْتَ فيها من الغرفة وصوتِ بكاء ( سنيّة ) لا يزال مسموعاً من وراء البابِ , قد شعرْتُ _ كما لم أشعر من قبلُ _ بفحولة زوجي ورجولتِه , واشتدَّتْ رغبتي فيكَ ؛ ليس بسبب العقاب والضربِ وكلّ هذا , فأنا لا زلْتُ لا أفهم جاذبيّةَ هذا الأمر .. ولكنْ ما شعرْتُ به يشبه شعورَ من تحرّش بها شخصٌ صفيقٌ فسار إليه زوجُها وأوسعه ضرباً .. ثمّ ذهب بها إلى البيتِ فأوسعها حبًّا ... أتعرف هذا الشعور ؟ ... أنا أمّ البنتَينِ ولكنّي لا زلْتُ امرأةً رقيقةً وقد لا يطيعان أمري , ولكنْ عندما يعود أبوهما للبيتِ سيخافان من ذكوريّته القاسية فينصاعان لأوامره ... فكرة الذكورية الطافحة هذه وما يقابلها من أنوثية رقيقة .. هي ما يثير فيّ شعوراً جنسيًّا لا أستطيع إنكارَه ! "
- " أعتقد أنني أتفهم ذلك ؛ يفترض بعد أن فرغْتُ من إثبات ذكوريّتي الطافحة المصحوبة بقسوة غير مبررة وذعر في نفوس من حولي ممن حلّ عليه غضبي ... يفترض بي بعد ذلك أن أفرغ لأميرتي التي تعتصم بقوّتي من هول الأخطار المحيطة بها في العالم الخارجي , فأوسعها حبًّا كما قلْتِ . أليس كذلك ؟ "
هزّتْ زوجتُه رأسَها في موافقةٍ , فأدناها منه وقبّل فمَها قبلةً رقيقةً , فغاصَتْ في حضنه , وقال :
- " إلى السريرِ , يا أميرة ! "
ابتسمَتْ في عذوبةٍ , وقالَتْ :
- " الطريق طويلة , وقدماي لا تقويان على ما تقوى عليه قدماك القويّتان ! "
فهم دعوتَها فلبّاها , واستغرب من أنه لم يحمل زوجتَه ويذهبَ بها إلى السرير إلا مرةً واحدةً فيما سبق ؛ في ليلة زفافِهما ... كان هذا تقصيراً من جانبه , وقد عزم على أن يعوّضها عنه في المستقبلِ ... ثمّ عندما أودعَها في سريرِها , بدأ في نزع ثيابِه , وهو يرسم ملامح جامدةً قاسيةً على وجهه , وكأنه جندي عازم على اختراق دفاعات الأعداء , وكان لذلك أثر السحر على ما يبدو في زوجتِه التي ندَتْ عنها آهة مشتاقة خافتةً لم يسمعْها منها قبلَ ذلك ... وكلّما زاد في التظاهر بالقسوة والفحولة _ من دون أن يستتبع ذلك عنفٌ في حقّها ؛ لأنها رقيقة ضعيفة لا تستطيع أن تتحمل عقاباً ولا ما دون العقاب ممن هو في مثل فحولتِه وقوّته _ كلما ازداد شوقُها وغلمتُها إليه ... ومرّتْ تلك الليلة وكاملُ الأسرةِ مشغولٌ بما جدّ في حياتِهِ ...
وعندما اجتمع أربعتُهم على مائدة الإفطار في صباح اليوم التالي , كانَتِ الأم أكثر تفهّماً لمشاعر ابنتيها اللتين تتبادلان النظراتِ وكأنّ كليهما تحاول حثّ الأخرى لتفتح الموضوع , فعاجلَتْهما أمّهما وقالتْ :
- " لقد أخبرني أبوكما بما حدث , وباستحقاقكما لعقابٍ أسبوعيّ في يوم إجازتِه على ما تقترفانه في ذلك الأسبوع , وأريد أن أؤكد على أنّ أمر أبيكما نافذٌ في هذا البيتِ , وأنه يستحسن بكما أن تكونا مطيعتَيْن في حال غيابِه حتى لا أرفع شكوى على أيٍّ منكما له , وأنتما تعلمان ما سيحدث حينها ! "
قالَتْ البنتان في صوتٍ واحدٍ :
- " بالطبع يا أمي ! "
فابتسم الأبُ , وقال _ وكأنه يرسي أركان النظام الهرميّ في البيت _ :
- " عندما أغيب عن البيتِ لعمل أو غيرِه فسيتضاعف العقاب ضعفَين على أيّ ذنب ترتكبانه حالَ غيابي وتخبرني به أمُّكما فيما بعد, حتى لا تتجرّءا على عصيان أمْرِ أمِّكما في غيبتي . هل هذا مفهوم ؟ "
- " نعم يا أبي ! "
- " نعم يا أبي ! "
نظرَتِ الأم إلى خضوعِ ابنتيها المفاجئ الذي لم تعتدْه من قبلُ , وبدا لها أنّ فكرةَ العقابَ هذه لا تبدو بهذا السوءِ , ما دام هذا من آثارِها , ولكنّ ما كان يشغلها أكثر هو تصوّر ما سيجري بينها وبين هذا الأب " مسموع الكلمة , عظيم المهابة " عندما يختليان معاً في تلك الليلة !
أما البنتان فقد كانتا أيضاً متشوقتَين إلى ما سيجري لهما على يد هذا الأب " شديد البطش , دقيق المحاسبة " عندما يفرغ لمؤخرتَيهما في ذلك اليوم من الأسبوع !
وأما الأب فقد كان لا يدري إلى أي الجهتَين هو أشوقُ ؛ إلّا أن للجهة الأخيرة اتصالاً أمسّ بما اعتاد هو أن يشتاق إليه في شبابه , وإن كان الآن قد صار على الجانب الآخر من العملة ... أما الجهة الأولى فقد كانَ لها جدّة , ولكل جديد لذّة .. وعلى أية حالٍ فما الداعي إلى المفاضلة بين أمرَيْنِ كلاهما متاحٌ , وكلاهما متشوّقٌ له من قِبَلِ الفاعل والمفعول به !
**********
- " ألا زالَتْ معترضةً ؟ "
- " لقد زال اعتراضُها بالكليّة , وستقابل الباشا عندما يحضر , وإن كان لحدس الأم أن يعلن رأيَه , فأنا أرى أنها ستقبله زوجاً "
- " متى جدّ كلّ هذا ؟ آخرُ ما أبلغتِني به أنها مستاءة من كِبَرِ سنّه ! "
- " لقد كان كِبَرُ السنّ هذا رمزاً لشيءٍ آخرَ أكّدْتُ لها انتفاءَه في حق الباشا , فزالَ اعتراضُها بالكليّة "
- " ما الذي كان يرمز إليه كِبَرُ السنّ ؟ "
على الرغم من زواجها من هذا الرجل لسنين طويلة إلا أنها لا تزال تخجل من مفاتحتِه في هذه الأمور , فقالَتْ :
- " هذه أمورٌ نسائيّة , وقد حُلَّتْ . فلا تشغلْ بالَكَ بها ! "
- " (حميدة) ! أنتِ دائماً ما تعتقدين أنك قادرة على القيام بشئون هذا البيتِ والتصرف من تلقاء نفسِكِ , وأنا في المعتاد أتغاضى عن ذلك , ولكنّ الأمرَ في هذه المرة عظيمٌ , ولا أريد أنْ نضربَ ميعاداً لمقابلة الباشا ثم أفاجأ أن البنتَ لا تزال رافضةً وتفضحنا أمام عليةَ القومِ ! "
كانَتْ الأمّ لا تزال تتذكر عقابَها لابنتِها , ثم جاء استفتاحُ كلامِ زوجِها فكان كفيلاً لانشغال الأم عن تمامِه , إذ قد تعلق قلبُها وعقلُها وجسْمُها بقوله ( وأنا في المعتاد أتغاضى عن ذلك ) , وما تَحْمِلُه هذه الجملة من وعودٍ تتمنى تحقُّقَها , فقالَتْ له في دلالٍ :
- " لنفرضْ أنّ خوفَك في محلّه ، وأنني أخطأتُ التقديرَ وتسببْتُ في فضيحتنا أمام علية القوم . ثم ماذا ؟ "
- " ثم ستكون هذه مصيبةٌ , من الأفضل أن نعْلَمَ مِن الآن أنها رافضة لنلغي الموضوع ! "
كان الحوار يذهب مرّةً أخرى بعيداً عن الجهة التي تريده أن يذهب إليها , فقالَتْ :
- " ولكنّ هذه المصيبة ستكون حينها ذنبَك أنت دون سواك ! "
- " كيف هذا يا امرأة ؟! "
- " لأنك _كما قلْتَ_ قد عوّدْتَني أن أستقلّ بشئونِ البيتِ وأن أفعلَ ما يحلو لي حتى استقر عندي أنني لا رقيبَ عليّ يراجعني فيما أفعله ويعاقبني إذا استحققْتُ العقوبةَ , فإذا تسبّبَ سوءُ تقديري في هذه المصيبة , فأنت من جرّأني على فعل ما يحلو لي من البداية "
كان زوجها لا يزال غافلاً عما تلمّح إليه , فقال :
- " هل البنت موافقة أم لا ؟ سؤالٌ بسيطٌ ! "
- " البنتُ موافقةُ ! "
- " حسناً إذن ! بإمكاننا الآن أن نستمر في لعبة الأحاجيّ هذه ما دمْنا قد تأكّدْنا من أنّ البنتَ موافقة ... ما الذي تلمّحين إليه بالضبط ؟ "
- " لقد كانَتِ البنتُ تحسب أن الباشا من هؤلاء المتخشّبين الذين لا يلبّون حاجاتِ زوجاتهم , ولكنّها سعيدة الحظّ فقد تأكّد أنه _خلافاً لما يوحي به مركزه _ ابنَ بلدٍ عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع زوجتِه ! "
- " وما الفارق بين ابن البلد والمتخشّب في هذا الأمر ؟ "
- " المتخشّب يظل يسأل زوجتَه في بلادة: وما الفارق بين هذا وهذا ؟ , وما الذي تلمحين إليه؟ .. أمّا ابن البلد فيجعل زوجتَه في حجره ثم يسألها في تبجح : هل هذا هو الفارق ؟ أم هل هذا هو الفارق ؟ بينما يداه تنوبان عن اللسان في إتمام السؤال ! "
كانتْ هذه صراحةً لا تترك شكّاً لذي شكّ , ولكنّ الزوجَ أصرّ على موقفه المتباله , وقال :
- " هل هذا تلميحٌ إليّ ؟ "
انفجَرَتْ ( حميدة ) :
- " بل هذا تصريحٌ بخيبتِك ؛ كم مرةً جئتُك بالأكل مالحاً أو محروقاً وبثيابِك متسخةً أو مجعّدةً . حتى تغضبَ ، فيستفزّك الغضبُ فتعاقبَ ، ولا تجد عقاباً ناجعاً غير الضرب فتضرب ؛ ولكنّ الجسد الذي تضربه أنت كذلك تشتهيه فيشترك الغضبُ مع الشهوة في مسّ جسدي وتأديبِه ؛ هل تريد تصريحاً أكثر من ذلك ؟ أنا أريدك أن تعرّيني وتجعلني في حجرك وتوسع مؤخرتي صفعاً حتى يحمرّ ردفاي ويبتلّ حجْرُك من فرط شهوتي ؛ أتريد مزيداً من التصريح ؟ "
- " أعتقد أنّ هذا كافٍ ! "
- " ثم ؟ "
- " ثمّ إن الذي على البرّ عوّامٌ . لو ضربْتُكِ كما طلبْتِ لطلبْتِ الطلاقَ وبكيْتِ عند أبيكِ "
- " يا رجل ! أأنت أعلم بي من نفسي ؟! لو ضربتني كما طلبْتُ لأكببْتُ على رجليكَ أقبّلهما ! "
- " كلام فارغٌ ! "
- " بل كلامٌ ملآنُ , ولكنّ الفارغَ مَنْ لا يقدر على تنفيذه ! "
- " كفّي عن التعريض بسبّي وإلا رميْتُ عليكِ يمينَ الطلاق ! "
كان هذا هو ما يلجأ إليه زوجُها لينهاها عن تماديها في الشغب عليه ؛ بينما هي تمنّي نفسَها أن ينتهي هذا الشغبُ إلى شيءٍ آخرَ تتوق إليه , فلا تكفّ عن شغبِها , ولكنّ هذه هي المرة الأولى التي تصارحه فيها برغباتِها بهذا الجلاء , ثمّ هو يردّها هذا الردَّ المنكرَ ...
وعلى الرغمِ منها شعرَتْ بغيرة هائلةٍ تجاه ابنتِها التي توشك أن تصير زوجةً لمن سيبلّغها مما تتمنى هي أن تبلغه مع زوجِها .. نظرَتْ إليه في غيظٍ , فقال :
- " حسناً ! لا داعي للغضبِ لأنني هددْتُ بتطليقكِ , ولكنّكِ أنتِ من يستفزني ويقول كلاماً لا معنى له ؛ تريدين أن أضربَكِ ؟! وهل يريد أحدٌ الضربَ ؟! اعقلي يا امرأة ! "
حاولَتْ منع الدموعِ من الانحدار من عينيها , ولمّا بدا أنّها عاجزةٌ عن ذلك , قامَتْ مسرعةً لتخرج من الغرفة وقد سالتْ دموعها على خدَّيْها ؛ عزاؤها الوحيد أن ابنتَها لن تتعرض لمثل ما تتعرض هي له الآن ؛ إنْ فاتَها ما تطمح فيه فلا أقلّ منْ أنْ تقرّ عيناً بأنّ ابنتَها ستكون أسعد حظًّا منها ...
ثمّ فكّرَتْ مرةً أخرى في الأمر فوجدَتِ الفكرةَ غريبةً , ووجدَتْ زوجَها معذوراً بعضَ الشيءِ , من يتصوّر _ إن لم يكن يَجِدُ مثل ما تجده هي وابنتُها من رغبة _ أنّ زوجاً مؤدبًا رفيقاً لا يضرب امرأتَه سيكون وبالاً , وأن زوجاً ماجناً لا يكفّ عن صَفْعِ ردفي امرأتِه سيكون نعمةً ؟!
ثمّ خطرَتْ لها خاطرةٌ مخيفةٌ : ماذا إذا كانَتْ ابنتُها قد ورثَتْ هذه الرغبةَ عنها ؟ وهل معنى هذا أنّ نسلَها ونسلَ ابنتِها ستسمرّ فيهم هذه الصفة ؟ ولكن هل هذه الصفة شيءٌ مذمومٌ أم محمودٌ ؟ لو كان الأمر مثلَ حالِ ابنتِها التي تبدو موشكةً على أن تنال رغباتِها وتزفّ إلى زوجٍ يرغب فيما ترغب فيه , فالأمر لا يبدو بهذه الخطورة , ولكنْ ماذا عمّن ينتهي بهم الحالُ من أحفادِها إلى مثل ما هي فيه ؟ يرغبون ولا يستطيعون إشباع رغباتِهم ؛ كانتْ تعرفُ هذا الشعورَ معرفةً شخصيّةً ولا تتمنّاه لأعدى أعدائها ...
ومن أعماقِ أعماقِها تمنّتْ ألّا يتعرّض أحدٌ من أبناء بنتِها إلى مثل ما تعرّضَتْ هي له ؛ أن يجدوا جميعاً مَنْ يهيلُ الصفعاتِ على أستاههم كلّما تمنّوا ذلك ؛ ألا يبيتَ أحدُهم بمؤخرةٍ معافاةٍ من الضربِ وقد اشتاق إلى أن تُضْرَبَ ؛ إذا كان أحفادُها يشعرون بنفس الرغبة التي تشعر هي بها فسيكون تحقّقُ هذه الأمنيّة من أكبر أسباب سعادتِهم فيما بعد ... ومن أعماق أعماقها تمنّتْ مرةً أخرى أن تتحق تلك الأمنية ... وأغمضَتْ عينيها .. وفي السماء الصافية _التي حجبَها عنْ عيني حميدة سقفُ المنزل_ مرَّ شهابٌ متّقدٌ لامعٌ كأنّه كان ينتظر انعقاد الأمنية ليخترق في تلك اللحظة غلافَ كوكبنا الجويّ !
وكُتِبَ في تلك الليلةِ لأمنيّة المرأة الأميّة البسيطة أن تتحقَّق !
وكُتِبَ لأجيالٍ من أحفادها أن ينعموا بما حُرِمَتْ هي منه !
________________
- بضعة تنويهات :
تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد نوهنا به .
تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين مجموعة من الأفراد بين ذكورهم وبين إناثهم وبين الذكور والإناث ؛ وهؤلاء تجمعهم صلة قرابة من الدرجة الأولى فيما يُشار إليه بالإنجليزية بـ Incest , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد نوهنا به .
تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يقترب من أن يكون ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
Erotic Spanking (/ /> فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .
تنويه 4 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه , ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .
فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .
- القصة :
1- يوشك أن يقع .. !
___________________________
- " أرجوكِ ! "
- " انزعْ كلَّ شيءٍ .. الآن!! "
يداه تحاولان إطاعةَ أمْرِها , ولكنّ عقلَه يمنعهما ...
ولمّا لمْ يقم بشيءٍ قامَتْ من جلستها على حافة السرير صوبَه , فكفّ عقلُه عن المنع , وترك يدَيه وشأنَهما ... وفي ثوانٍ كان كل ما يرتديه قد لاصق الأرض ... وهو يقف عارياً أمامَها ...
رجعَتْ لجلستِها على السرير , وبدأتْ عيناها تتفحصانه بلا خجل .... ولماذا الخجل ؟ ... هي من وَلَده ... وإن كان قد مرّ على تلك الولادة ثمانية عشر عاماً !
لقد صار صغيرُها شابًّا يافعاً ... ومثل أيّ شابّ يافع فإنه يريد تجاوزَ الحدودَ ....
كانتْ تغضّ النظر عن بعض التجاوزات الهينة هنا وهناك ... ولكنها رسمتْ في نفسِها خطّين أحمرين لن تتسامح مع تجاوزِ صغيرِها لهما : دراستُه .. وأختُه التوأم ...
- " ما الذي ترى أني سأفعله بك ؟ "
- " ما كنْتِ تفعلينه بي عندما كنْتُ صغيراً "
جاء صوتُه طفوليًّا لا يتناسب مع المنظر الذي رأتْه عندما عادَتْ من عملِها لتسمع صراخ أختِه وقد دفعها لتسقطَ على الأرض ... كان هذا خطًا أحمرَ .. وقد تجاوزه !
- " وأنت لم تعد "صغيراً" في ظنّك ؟! ومع ذلك فأنت تستغل ذهابي للعمل ثم تضرب أختَك كما لو كنْتَ طفلاً في العاشرة ؟! "
كان زوجُها قد توفّي في حادث سيرٍ قبل عشر سنواتٍ ... وقرَّرَتْ حينَها أنّ حياتَها المقسّمة بين رغباتِها وبين تفرّغِها لولديها قد انتهَتْ ... وبدأتْ حياةٌ جديدةٌ ليس فيها غيرُهما ... ولكن للأسف كان الابن لا يزال بحاجة لحزم أبيه الذي مات ، فبدأ في الثورة وعصيان الأوامر ... واضطرَتْ حينَها للعب دور الأم والأب معاً , وأن تتولى عقابَه مكانَ زوجِها ...كانتْ تلك هي بداية " جلسات العقاب " التي صارَتْ جزءًا ثابتاً من حياتِه لسنواتٍ , وإن بدأتْ في التناقص تدريجيًّا ... حتى كان آخرُها بعدما بلغ الرابعة عشرة بأيام ... والآن بعد أربع سنين يعود طفلُها للشقاوة .. وتعود هي لنفس طريقة عقابِه , وإن كانَ ما تراه أمامَها الآن يدل بوضوح على أن أربع سنواتٍ تصنع الكثير بجسد المراهق .. حاولَتْ تجاوزَ النظرَ إلى جسده الذي لم يعدْ طفوليًّا على الإطلاق , وسألَتْه :
- " هل لديك شيءٌ لتقوله ؟ "
- " أنا آسف , ولكنها هي من بدأتْ ... "
- " ما الذي قلْناه من قبلُ حول موضوع ( هي من بدأتْ) هذا ؟ "
جاء صوتُه خافتًا , وكأنه يعترض على ما يقوله :
- " أنني أنا الابن , وعليّ أن أتغافلَ عنها ... "
ثم عاد لرفع صوتِه :
- " ولكنّك لم تعاقبيها أبداً , وهذا يجرّئها على فعْلِ ما تحبّ ! "
فكّرَتْ ( بهيّة ) فيما قاله ووجدَتْه محقًّا ؛ هي لم تعاقبْ ( سوسن ) أبداً ؛ ولكنّ هذا كان مبرّرًا ؛ لقد كانتْ ( سوسن ) ملاكاً , وإن لم تكنْ في تحصيلها الدراسي متفوقة مثل ( بدر ) , ولكنها تبذل كل جهد ممكن في دراستِها , وهي لا تطالبُ ولدَيْها بأكثر من بذل الجهد , أما خارج الدراسة فلا مجال للمقارنة ؛ ( سوسن ) الملاك تطيعها في كل شيءٍ , و(بدر) _ على الرغم من محاولاتِه _ لا يزال " ثوريًّا" في أعماقه .. مثل والده !
كانتْ ( بهيّة ) قد تلهّت بأفكارها عن الإجابة على تعليق ( بدر ) فبحث عن شيءٍ آخرَ ينجيه من العقاب , وقال بصوتٍ _ كان يتمنّى أن يموت قبل أن يسمعه صادراً عنه , ولكن للضرورة أحكام _ :
- " وكنْتُ أعتقد أن الخبرَ الذي بلغَنَا قبل أسبوعين يشفع لي ! "
نظرَتْ إليه أمُّه _وقد أعادَها هذا الصوتُ إلى ذكرياتٍ بعيدة _ , وجاهدَتْ لتمنع نفسَها من احتضانه وهدهدته حتى ينام ...
أمّا ذلك الخبر المشارُ إليه فكان بالفعل شيئاً جللاً , لم تشعرْ ( بهيّة ) بمثل هذه السعادة الجارفة منذ كان زوجُها حيًّا ؛ ... فقبْلَ شهرٍ واحدٍ ظهرَتْ نتيجة الثانوية العامة ... وكانتْ فرحةً عارمةً _ على الأقل في حق ( بدر ) _ , ولكنْ قَبْل أسبوعين جاء الخبرُ الأكبرُ : لقد قُبِل صغيرُها في كلية الطب ... كانتْ سعادتُها لا توصف بهذا الخبر .. وبدأَتْ في سَبْق اسمه باللقب الرفيع ؛ دكتور , وملَّ كلُّ أقربائها وأصدقائها من حديثِها "العرضيّ" عن "الدكتور" ( بدر) , وأخبار " الدكتور" ( بدر ) .... ولكنّ هذا لا يعفي " الدكتور" ( بدر ) من تلقي نتائج فعْلتِه ؛ لقد طرح أختَه أرضاً , وعلى مدار النصف ساعة القادمة ستعمل ( بهيّة ) على أن تشكّل استجابة شرطية في ذهنه بين طرح أختِه أرضاً وبين انبعاث الألم من مؤخرتِه ...
مفهوم الاستجابة الشرطية هذه سيكون فيما يدرسه " الدكتور" (بدر) بعد شهورٍ في كلية الطب , تماماً كما درستْه والدتُه عندما كانتْ في مثل سنّه في نفس الكلية ... قبل ثلاثين سنة !
******************
الخبرُ في كلِّ مكانٍ ...
ولكنّ التفاوتَ بين أحوال المستمعين للخبر هائلة ...
هناك من دمَعَتْ عينُه ... وهناك من سجد شكْراً ....
" جيفارا مات ! "
وهناك من لم يبالِ بالموضوع كلِّه ...
ولكنّ شخصاً بعينه كان أكثر اهتماماً ممن سواه بتوابع هذا الخبر , أو للدقة : بتوابع ما قام به تعليقاً على هذا الخبر ...
هناك شخصٌ ينتظر عقاباً موجعاً على يد والده بعد قليلٍ ...
شخصٌ اسمه : ( بهيّة سالم ) ...
- " (بهيّة) ! "
جاء الصوتُ الهادرُ معلناً عن قرْبِ حدوثِ ما كانتْ تخشاه ... فتكوَّرَتْ أكثرَ في فراشِها وتظاهرَتْ بالإعياءِ ؛ لعلّ هذا ينجيها... ولكنّها تعلم أنْ لا شيءَ سينجيها ...
صوتُ أمِّها ينبعث من خارج الغرفة وهي تتوسّل لأبيها " أن يسامح البنت هذه المرة ! " , والأب يردّ بغلظة توحي بأن الأم لو استمرّت في الشفاعة فسيتسع العقاب لاثنين بدلاً من أن يضيق عن واحد ... فيسْكُتُ صوتُ الأمّ ...
بابُ غرفتِها يُفْتَح ... يشير الأبُ لأختِ ( بهيّة ) الكبيرة بأن تخرج من غرفتِهما وتغلق البابَ وراءَها .. أختُ ( بهيّة ) تنظر إليها في مواساة .. ثم تفرّ هاربةً من الغرفةِ التي صارَتْ معزولةً عن العالم الخارجي ... وليس فيها سوى الصائد والفريسة !
الصوتُ الهادرُ يعود مرّةً أخرى :
- " أريد فقط أن أعرف لماذا ؟ "
- " لقد كانتْ مجرّد دعابة , أنا لم أؤمن بحرفٍ مما كتبْتُه ! "
عاد الأبُ يزمجرُ , ورفع ورقةً في يده , وبدأ يقرأ :
( ... عندما تغرق السفينة يغرق قبطانُها معها , ولكنْ عندما تغرق السفينة وينجو القبطانُ , ثم يتظاهر بالاعتذار بينما هو قد جهّزَ مَن يقاطع اعتذارَه ليبايعه ويفدّيه ويدعو له بطول العمر ودوام السيادة ... عندها لا يصح أن يقال : ما علّة تخلفنا وما سبب نكستنا ؟ ... ولنا في موت ( جيفارا ) عبرة؛ ( جيفارا ) القبطان الذي سبق بحّارتَه لحتفه ؛ المناضل الذي ... )
قاطع الأبُ قراءتَه الغاضبة ليتوجه بسؤالٍ ناريّ لابنة الثامنة عشرة المكوّرة في سريرها أمامَه :
- " أتدرين ما الذي كان يمكن أن يحلّ بكِ لو انتشر هذا المنشور ؟! "
جاء الصوتُ المسموع بالكاد :
- " أنا لم أكتبْه لأنشرَه ! "
ويأتي الردّ الذي يصمّ الآذان :
- " فلماذا كتبتِه إذن ؟؟! "
لم يتلقّ ردّاً , إلا هينمة مَنْ هو موشكٌ على البكاءِ , فأضاف :
- " هذه هي ! لطالما كنْتِ فتاةً مؤدبة مبتعدة عن المشاكل , ولكن في الفترة الأخيرة لا أدري ما الذي حدث لكِ .... هل تدرين ما الذي كان ينتظركِ في السجن لو قبض عليكِ بهذا المنشور؟ ... لا ؟ ... حسناً سأعطيكِ فكرةً عمّا نصنعه بالمساجين السياسين ؛ حتى تعلمي خطورةَ ما فعلتِه .... وبما أنّكِ ابنتي فلن " أقسو " عليكِ ... سأكتفي بأقلّ صورة من صور عقاب المسجونين سياسياً ... الآن انهضي من السرير واصعدي للسطح وهاتي خرطوماً من هناك ... ثم سنبدأ الحفلة ! "
- " أبي , أرجوكَ ! لن أكرّرَها مرّةً أخرى ! أرجوكَ ! "
- " صدقيني ما سأفعله بكِ لمصلحتكِ ؛ إن الشباب في سنّك يحسبون الثورة عبثاً يقوم به كلُّ أحد ... ويظنون أن التهجم على القيادات موضة يقلدون بعضهم في فعلِها ... وأنا سأشفيكِ من هذا كلّه ... مع سقوط الخرطومِ على جسدكِ ستنسين كل هذه الدوافع الثورية , وتتفرغين لدراستك وأسرتك ... السطحَ ! "
- " هناك خرطوم تحت السرير ! "
- " ماذا ؟ "
- " لقد توقعتُ أن ينتهي الأمر إلى هذا , وخفْتُ أن يراني أحدٌ في النهار وأنا أجلب الخرطوم من السطح فيخمّن ما يوشك أن يقع , فصعدْتُ ليلة البارحة وجلبْتُه ووضعْتُه تحت السرير ! "
نظر الأبُ في دهشة , وهو يحاول أن يفهم ... كان ما وصل إليه _ بعد جهدٍ _ هو أن ابنته قد تجرّأتْ على كتابة ذلك المنشور ثم أرادَتْ الاعتذار عن فعلِها فوضعَتْه في حيث يراه , وأعدَّتْ آلةَ عقابِها كنوعٍ من الاعتذار وإظهار الأسف ؛ ولكنْ .. إظهار الأسف على ماذا ؟ لو لم يعثرْ هو على تلك الورقة لَمَا عَلِم بشيءٍ , ولانتهى الأمر من قبل أن يبدأ ...
- " لماذا وضعْتِ هذه الورقة على مكتبي ؟! "
فطَنَتْ ( بهية ) إلى أنّ مخطَّطَها على وشك الانكشاف , ماذا سيقول أبوها إذا اكتشف أنها خططتْ لكل هذا ؛ لأنها "راغبة" في أن يعاقبَها ! هذه كارثةٌ ! ثم اهتدَتْ لمخرجٍ ولكنه يبدو كالاستجارة من الرمضاء بالنار , ولكنْ لا سبيلَ آخر :
- " أنت ضابط في الشرطة ! "
- " ثم ؟ "
- " لقد كانتْ هذه ثورة ضباط , وربما صار الوقتُ مناسبًا لثورة ضباطٍ أخرى ! "
اتّسعَتْ عيناه في ذهولٍ , وهو الذي كان يحسبُها تعتذر , فإذا هي " في الواقع " تحاول تجنيدَه .. أيّ نية مسبقة بتخفيف عقابِها قد طارَ بها هذا الاعتراف !
أمسك ساعدَها بغلظة , ورفعها من السرير , ثم قبْل أن تدرك ما يحدث كان قد عرّاها من كل شيءٍ ؛ لو كانتْ قد سجنَتْ بتهمة محاولة تجنيد ضباط , ومحاولة قلْبِ نظام الحكم , لكان هذا أهونَ ما ستمرّ به ... ثم مدّ يده تحتَ السرير فوجد الخرطومَ كما قالَتْ ...
نظرَ في عينيها فوجدها مذعورةً ... فكّر في أنها لم تحسبْ حسابًا لكلِّ هذا , ولكنّه طيشُ الشباب ...
ثمّ رأى أن علاج طيش الشباب متوفّرٌ ويسيرٌ .. وأنه لن ينتهي اليوم حتى تكون قد عولجت به ..
************
- " ( سالم سمير ) ! "
- " أفندم ! "
- " قَسَم الشرطة ! "
تلا ( سالم ) القسم , وتناول الشهادة ...
كان ( سالم ) يتمنى هذه اللحظة طيلةَ حياتِه تقريباً ؛ أن يصير شرطيًّا في شرطة جلالة الملك !
والآن تحقق حلمه ؛ لقد صار لديه مسدسه ورتبته , وزادَتِ الهوّةُ أكثر وأكثر بينه وبين بقية الفلاحين الأميين ؛.... كان يكره هؤلاء كرهاً مقيتاً , ولكنّ فدادين أبيه لن تَزْرَعَ نفسَها ...
وعندما عاد لقصر أبيه استقبله البوّاب بلكنته الغريبة واحتفائه العاميّ , ولم يستطع أن يمنع نفسَه من الإغلاظ له في الرد , ولكنّ البوّاب كان يزداد بالجفاء حفاوةً , كأنه يرى أن كل ما يصدر عن السيّد مقبول ... بل مرغوب فيه ...
كان ( سالم ) غافلاً عن وجود أبيه في شرفة القصة على بعد أمتار منه .. يسمع ردوده الجافية على البوّابِ ... لم يكن ( سمير باشا ) يهتمّ كثيراً بمنْع احتقارِ ابنه للفلاحين , ولكنه كان يرى أنّه لا ينبغي أن يتخلى الباشا ولا ابن الباشا عن رقيّه _ حتى لو كان ذلك أثناء تعاملِه مع فلاح _... ولذلك فقد عزم على تلقينِه درسًا ... وعندما جمعهما العشاءُ تلك الليلة , وبعد أن بارك لابنه الوظيفة الجديدة _ التي كان الباشا يحتقرها سرًّا , ويرى أنها وظيفةٌ منحطةٌ _ سأله عن الحوار الذي سمعه بينه وبين البوّاب صباحاً , فردّ الابن في عدم مبالاة .. ولكنّ الأب ألحّ عليه في تفسير الطريقة التي تكلم بها مع البواب , فجاء جواب ( سالم ) مستغرباً :
- " إنه بوّاب , وليس ابن ذواتٍ .. أعتقد أنه كان مسروراً حتى بتعنيفي له "
- " هو ليس ابن ذواتٍ , ولكنك أنت ابن ذواتٍ , والحوار علاقة بين طرفين ! "
- " ما الذي كان يفترض بي أن أصنعه ؟ أن أكلمه بالإنجليزية ؟! "
كان الباشا يكره الطريقة الساخرة التي يجيبُ بها ابنه على أسئلتِه , ولذا فقد أمضى عزمَه على السير في هذا الطريق حتى النهاية :
- " على ذِكْرِ الإنجليزية , أتعرف أنني حللْتُ ضيفاً على أحد اللوردات الإنجليز في سفري الأخير ؛ اللورد ( بليذن ) , إنه زميل دراسة , لقد حكيْتُ لك عنه ... ومعك حقّ : إن هؤلاء القومَ آيةٌ في الرقيّ والحضارة والأخذ بأسباب المدنية ... ولكنّي كنْتُ دائماً ما أتساءل كيف تُمْنَحُ الحضارة والرفاهية لشخصٍ ما ثم يجد بعد ذلك دافعاً للعمل والاجتهاد والمحافظة على مكانته ومكانة مجتمعِه ... في الواقع لقد شكوتكَ صراحةً للورد ( بليذن ) , وما أنت عليه من استهتار وعدم احترامٍ معي , فكان ردّه الهادئ هو : ما نوع العقاب الذي تستعمله لتأديبِه ؟ ... فظنَنْتُ أنه نَسِي أنك شاب في العشرين , فأخبرْتُه بذلك , فقال إنه يعرف ذلك , ولكنّه لا يزالُ يؤدِّبُ ابنَه وابنتَه وهما تقريباً في نفس السنّ ... وأنه خلافاً لما يعتقد البعض فإن الشاب أو الفتاة يكونان أحوج للعقاب في تلك الفترة , ولكن أولياء الأمور نادراً ما يتنبهون لذلك ... في الواقع لقد أصرّ على أن يريَني بنفسه كيف يعاقب ابنَه _ الذي يبدو أنه فعل ما يستحق العقاب _ أمام عينيّ , وكنْتُ أنا بالطبع محرجاً من ذلك , ولكن أمام إصراره فقد وافقْتُ على دعوتِه تلك , وبعد أن رأيتُ عقابَ ابن اللورد أستطيع أن أقول إن ذلك قد أجاب على سؤالي القديم حول ما يمنع الأشخاص _ خصوصاً الشباب _ من الانجراف إلى اللذائذ والانغماس في الرفاهية بالرغم من توفر أسبابِها لديهم "
نظر ( سالم ) في ضيقٍ إلى والدِه , وقد ساءه ما سمعه , وبدا أنه يعرف إلى أين يتجه هذا الحوار , ولكنّه قرّر أن يسأل على أية حال :
- " ما هو بالضبط العقاب الذي عاقب به اللورد ابنه ؟ "
- " أعتقد أنه من الأفضل أن أريك عمليًّا , بدلاً من أن أشرح لك كلاماً ؛ ففي النهاية إن طريقة كلامك مع البوّاب اليوم ذنبٌ كافٍ موجبٌ للعقوبة ... هل فرغْتَ من تناول طعامِك ؟ "
نظر ( سالم ) في قلقٍ , وهو لا يدري إن كان والده يمزح أم لا , ثم قال :
- " ستريني عمليًّا , الآن ؟ بعد أن أفرغ من طعامي ؟ ألا يمكنك أن تنتظر إلى الغد ؟ "
- " إن مما قاله اللورد ( بليذن ) : إنه كلما تأخر زمان العقوبة عن زمان الذنب , كلما قلَّتْ فاعليّة العقاب , وأعتقد أنني لا أريد أن يكون أول عقابٍ لك عديمَ الفاعليّة !"
- " في الواقع أنا لم أشبع بعد ! "
- " ولن تشبع أبداً , ما دمْتَ تعلم أنّه بعد الشبع يأتي العقاب المستحقّ ... لذا فدعْ لي أنا تقديرَ شبعِكَ الذي أرى أنه تحقق ... وأرى أن هذا هو وقْتُ الانتقال إلى سريرك وانتظاري هناك حتى آتي لأعاقبكَ ! "
كان ( سالم ) لا يصدّق أذنيه ؛ لقد كان يعتقد أن العقابَ سيكون حرماناً من مصروفٍ , أو حتى إذلالاً بطلب تنظيف القصر أو زراعة الأرض , ولكنّ " انتظرني في سريرك حتى آتي لعقابك " هذه لا تتناسب إلا مع شيءٍ واحدٍ ...
- " إن لم تنتقل لسريرك الآن , وترتقِبْ عقابَك عارياً كما ولدتْك المرحومةُ أمُّك ، فسأعاقبك هنا على مرأى ومسمع من الخدم "
كان صوتُ الأب مرتفعاً , وفكّر ( سالم ) أن الجميع قد سمعوا التهديدَ , ولم تفتْه صوتُ الضحكاتِ المكتومة , وخاف إن تأخر في الاستجابة لأمر والده أن يشهد الخدمُ عقابَه صوتاً وصورةً , فهرع إلى سريرِه , وانتظر هناك لوهلة , ثم تذكّر تمام جملة والده فاحمرّ خجلاً , وهو ينزع عنه كل خيط من ملابس ثم يجلسُ على السرير فينضغطُ ردفاه العاريان على الملاءة الباردة ...
وعندما انفتح البابُ بعد دقائق ... توقف قلْبُ ( سالم ) عن النبض لجزء من الثانية وهو ينظر إلى الباب المفتوح... ؛ هذا هو والده لا شك فيه , ولكنّه ليس وحدَه!
*******
- "ستتزوجين من باشا , فماذا يبكيكِ ؟ "
- " إنه كبيرٌ في السن ! "
- " إنه في الخامسة والثلاثين ؛ وهو مع ذلك باشا ! "
- " أنا لا أريد باشا , أنا أريد شخصاً في مثل سنّي ! "
نظرَتْ ( حميدة ) إلى ابنتِها الباكية , وقالتْ :
- " ( صباح ) , يا حبيبتي , إن الزواج ليس كما يصوّر في الروايات ؛ إنه علاقة احترام وتفاهم في المقام الأول , وفارق السن لا يحول دون الاحترام والتفاهم ... ثم إنه .. "
- " باشا , أعرف ! .. وأنا بنت أفندي موظف بسيط , والفارق بين هذين يساوي في عملة السنين خمس عشرة سنة ! "
- " إن لم ترغبي في زواجه , فلا تتزوجيه , ولكنْ لا تتحدثي عن أبيكِ بهذه الطريقة ! "
نظرَتْ إليها ( صباح ) في غضبٍ , وقالَتْ :
- " لماذا لم تتزوجي أنتِ الأخرى باشا , بدلاً من أبي ... فأصيرَ أنا بنت باشا وأتزوج شخصاً لا يكبرني بخمس عشرة سنة ! "
كانتْ ( حميدة ) تحاول إمساكَ أعصابِها , ولكن ( صباح ) دائماً ما كانتْ تنجح في إثارة جنونِها ... اليومَ يتقدم لها باشا , و للمرة الأولى تشعر ( حميدة ) أن هناك فرصة فعليّة لابنتها لترقى السلم الاجتماعي ؛ إن ابنتها تقرأ وتكتب وتجيد الكلام المزوّق ؛ فهي صالحة لحياة القصور .... ولكن الفتاة الطائشة تريد شاباً ممن تقرأ عنهم في تلك الروايات السخيفة ... وتحاول الأم مرةً أخرى أن تسلك مسلكاً عقلانيًّا :
- " لماذا لا تقابلينه بدايةً ثم تقررين فيما بعد إن كنتِ موافقة أم لا ؟ "
- " لسْتُ موافقةً من الآن , فما الداعي للمقابلة ؟ "
- " لعله يعجبكِ ؛ مع السنّ تأتي الحكمة والوقار ! "
- " فليتزوج مَن هي في سنّه إذاً ؛ طلباً للحكمة والوقار ! "
لم تدْرِ ( حميدة ) ما الذي تصنعه بهذه الفتاة , فقالَتْ :
- " على أية حالٍ لقد وافق أبوكِ ؛ فرأيكِ تحصيل حاصل , فبإمكانكِ أن تفرحي بزفافك إلى باشا , وتعيشي حياة هانئةً , أو تجعلي اعتراضاتك البلهاء حائلاً بينك وبين السعادة ؛ الخيار لكِ ! "
- " هذا هو الاختيار ؟! لقد اخترنا لكِ وافرحي _ رغم أنفكِ _ , أو احزني على عدم امتلاكك لأمر نفسكِ ؛ لك الخيار ! بالمناسبة إن المأذون يسأل عن موافقة العروس , وإذا قلْتُ لا فلن يتم العقد ! "
- " سنعقد الزواج بدون مأذون إذن ، ثم هل أنتِ من الحمق بحيث تفعلين ذلك ؟ تردّين كلمةَ أبيكِ بعد أن زوّجَكِ ممن ارتضاه لكِ ؟ "
- " المفروض أن يكون الرضا منّي أنا ! "
- " وما الذي لا يرضيكِ فيه ؟ "
- " إنه في الخامسة والثلاثين ! "
- " أكنْتِ لِتَرْضَيْ به لو كان في الخامسة والعشرين ؟ "
- " نعم ! "
- " ماذا عن الثلاثين ؟ "
- " نحن لا نفاصل في سوق الخميس ! إن خمس عشرة سنة فارق كبيرٌ ! مهما رفعْتِ السعرَ تدريجيًّا فلن أشتري ! "
فطنَتْ أمُّها إلى فكرةٍ مخيفةٍ فسألَتْ :
- " هل هناك شخصٌ آخـ .. "
- " لا ! لا يوجد شخصٌ آخر , أنا لا أخرج من البيتِ ؛ من أين سيأتي شخصٌ آخرُ ؟! كل ما أريده أن أتزوج شخصاً مناسبًا ؛ وليس شيخاً فانياً ! "
- " حدِّقي في عينيّ ! "
كانتْ ( صباح ) تكره هذه الجملة عندما تقولُها أمُّها ؛ قد تكون أمُّها أميّة أو ساذجةً حتى , ولكنّها تستطيع شمّ الكذب من أميال ؛ خصوصاً إن كانَتِ الكاذبةُ ابنتَها ... رفضَتْ ( صباح ) أن تنظر إلى عيني أمِّها , فقالَتْ ( حميدة ) :
- " إن لم يكنِ السببُ وجودَ شخصٍ آخرَ ,وليس ما تظاهرْتِ به من فارق السنّ , فما علة رفضكِ إذًا ؟ ... هل تعتقدين أن إحداهنّ قد سحرَتْكِ أو عانتْكِ ؟ "
- " سحرَتْني حتى لا أتزوج هذا المرفّه ؟ لقد خدمَتْني إذًا ! "
- " هذا هو السبب إذن ؛ المرفّه ! "
- " لا , هذا ليس السببَ ؛ إنها مجرد صفة .. "
- " هذا هو السبب : أنتِ تريدين شخصاً يهزّ بك السريرَ , وليس ... "
- " أمّي !! "
- " هل هذا هو السبب ؟ لماذا لم تصارحيني ؟ "
نظرَتْ ( صباح ) إلى أمِّها في غضبٍ , ثم قالَتْ :
- " حسناً ؛ أنا أريد شخصاً إذا جاء الليلُ عاملني كما تعامل فتياتُ الهوى , فإذا طلع الصباحُ صرْتُ أنا من بناتِ الناس وصار هو من أهلِ الإتيكيت ! "
ابتسمَتْ أمُّها, ثم قالَتْ :
- " صار من أصحاب ماذا ؟ "
ردَّتِ الابنةُ في سخرية :
- " الإتيكيت ؛ إنه لقب لرجال القانون في فرنسا ! "
فأجابَتِ الأم في غبطة بمعرفة ابنتِها الواسعة :
- " فعلاً : العلم نورٌ ! "
شعرَتْ ( صباح ) بالاستياء بمجرّد صدور التعليق البريء من أمِّها ... ثم إن أمَّها فطَنَتْ إلى ما حدث , فقالَتْ :
- " لا علاقة له بالقانون . أليس كذلك ؟ "
- " لا ! إن له علاقة بالأكل والشرب والرقص وأشياء أخرى .. "
- " رقص ؟! "
- " على أية حالٍ ؛ أنا أتفهم أن والدي قد أعطى الرجل .. "
- " الباشا ! "
- " ..الباشا موافقتَه , ولكني لا أرغب في أن أعيش بقية حياتي مقيّدة بقيود اللباقة وسعادتَك وسعادتِك ؛ على الأقل ليس في غرفة النوم ... "
- " سأقاطعكِ هنا لأخبركِ بخبر كان متوقّعاً أن يزهّدكِ في الباشا , ولكنْ : محاسنَ الصدفِ ! "
- " ماذا ؟ "
- " إن الباشا طلّق ثلاث زوجاتٍ من قبل ! "
- " أمن المفترض أن يكون هذا شيئاً جيداً ؟ "
- " عندما سمعْتُ بهذا الخبر للمرة الأولى قلْتُ في نفسي : فلتذهب الباشوية إلى الجحيم , ما دام الرجل مطلاقاً فلن أكون سبباً في كساد سوق ابنتي بزواجها منه ثم طلاقها بعد ذلك وزُهْدِ الرجال فيها ... ثم رأيْتُ أن أسأل عن أخبارِه فعلمْتُ أن زوجاتِه الثلاث الأول كنَّ جميعاً من بنات الشأنِ أو المرفّهاتِ ؛ فكرهْنَ منه ما تمنيْتِه أنتِ , وطلبْنَ الطلاقَ ... ولو لمْ تفاتحيني أنتِ في الموضوع لفاتحْتُكِ أنا فيه ! "
- " ما الذي كرهْنَه بالضبطِ ؟ "
- " ما يصنعه رجالُنا البسطاء بنا منذ بدء الخليقة ؛ أنْ يُشْعِرَ الرجلُ المرأةَ بأنوثتِها ! "
تورّد خدّا ( صباح ) فقرَّرَتِ الأم أن تتمادى :
- " لا يصحّ مثلاً أن يفاجئ الرجلُ زوجتَه وهي ترتدي ملابسِها , فيصنع مثلما يصنع هؤلاء المخنّثون المتأنقون فيتنحنح ويطلب المعذرة وينسحب ، بل عليه أن يستمتع بما هو حقّه , فيقبض على هذا ويضرب على ذاك ... "
- " أمي !!! "
- " أنا لا أفهم كيف يعيش هؤلاء الباشوات حياتَهم بهذه الطريقة , ولكنْ بما أنّ هذا الباشا بالذات لم يفقد عقلَه في المسائل الزوجية , ولا يزال يرغبُ فيما نرغب نحن فيه , فأنا لا أرى داعيًا لردِّه بعد أن وافق عليه أبوكِ . أليس كذلك ؟ "
- " حسناً ... إنني لا زلْتُ بحاجةٍ إلى أن أقابلَه أولاً ! "
تجاهلَتِ الأمّ تعليق ابنتِها _ فقد أدركَتْ من نغمة كلامِها أنها قد وافقتْ سلفًا _ وأضافَتْ :
- " وبذا يبقى لنا موضوعٌ آخرُ : لقد رفضْتِ مصارحتي بعلة رفضكِ للباشا , وظللْتِ تلفين وتدورين ... ثم هزأتِ بأمِّك البسيطة غير المتعلمة وجعلْتِ الكتاكيت تدخل في القانون .. "
ضحكَتْ ( صباح ) رغمًا عنها , فأضافَتْ أمُّها :
- " من حسن الحظ أنّ القصص التي أذاعتْها طليقاتُ زوجك المقبل قد شملَتْ شيئاً صالحاً لأن يكون عقاباً لكِ على ما فعلتِه قبل قليلٍ ! "
نظرَتْ ( صباح ) في دهشةٍ لأمها , فأضافَتْ الأم :
- " وفقًا لما بلغني من تلك القصص : فعندما تشغبين على زوجك في المستقبل , فإنه سيصنع بكِ آنذاكَ ما سأفعله بكِ الآن .. مع خلافٍ في الدافع بالطبعِ ؛ هو يريد منك ما يريده الرجل من زوجتِه بالإضافة لتأديبك , وأنا لا أريد سوى تأديبِك ! والآن انزعي ملابسَكِ ! "
- " عندما يؤدبني سيطلب مني أن أنزع ملابسي ؟ "
- " هل بدأ خيالُكِ في التحليق من الآن ؟ وفقاً لروايات المطلقات ؛ فإنه يصرّ على نزعِها بنفسه "
كانتْ ( صباح ) تتمنى أن تنفرد بنفسِها لتنشغل بتصوّر المشهد , وما ينشأ عن تصّور المشهد ... ولكنّ أمَّها كانتْ مصرّة على معاقبة ابنتها " طويلة اللسان " في التوّ ..وبدأتْ تمدّ يدَها تجاه ملابس ابنتِها , فقالتْ ( صباح ) :
- " مهلاً .. مهلاً ... دعينا نفكِّرْ عقلانيًّا في الأمر ... لقد أوصلْتِ فكرتَكِ .. كان ينبغي أن أصارحَكِ ... لا حاجةَ الآن لهذا العقاب ! "
- " إن العقابَ لم يبدأ بعد يا طفلتي ! "
كانتْ ( حميدة ) قد رفعَتْ عباءة ( صباح ) حتى وصلَ ذيلُها إلى ذراعي ( صباح ) , فأثارَتْ الحركةُ أشجاناً قديمة لديهما جميعاً ... وابتسَمَتْ ( حميدة ) وهي تقول :
- " آخر مرّة قمْتُ فيها بهذا الفعلِ , كنْتِ تشتكين من أن الماء سيكون بارداً وأنّكِ لسْتِ بحاجة للاستحمام ! ... ارفعي ذراعيكِ ! "
أطاعَتِ البنتُ طلبَ أمِّها , ثمّ قرَّرَتْ أن تلعبَ الدور :
- " ولكنّ الماء بالفعل باردٌ , وأنا أكره الاستحمام ! "
كانتِ العبارةُ مألوفةً في أذن ( حميدة ) , ولكن الصوتَ قد تغيّر والجسد قد تغيّر ؛ وإن كانَتِ الشقاوةُ على حالِها ...
وعندما أكمَلَتْ ( حميدة ) تعريةَ ابنتِها , جرَّتْها فاسْتَجْرَرَتْ لها , فبلغا سريرَ البنتِ فجلسَتِ الأمّ وأجلسَتِ ابنتَها في حجرِها مستقبلةً الأرضَ بوجهها , وعاليةً مؤخرتُها في السماء , وقد حاكى لونُ خدّيها ما يوشك أن يتلوّن به ردفاها ..
وكانتْ ( صباح ) منشغلة بخجلها من الموقف , ولكنّ شهقة بكاءٍ قد أعادَتِ انتباهها إلى أمِّها , فأدارَتْ رأسَها لتنظر إليها , فوجدَتْها تبكي , ولم يكنْ يخفى على ( صباح ) الدافعَ , ولكنّها قالَتْ :
- " لِنأملْ ألا يرى زوجي فيّ ما يبكيه هو الآخر ! "
فضحكَتْ ( حميدة ) , وقرَّبَتْ يديها من بعضهما وكأنها تحاول أن توصل المعنى بالإشارة لأن الدموع تمنعها من الكلام , ففسَّرَتْ ( صباح ) حركتَها :
- " لقد كنْتُ _في يومٍ ما_ بهذا الحجم الذي تشيرين إليه بيديكِ... هذا هو ما يبكيكِ ؟ "
هزّتْ ( حميدة ) رأسَها قبولاً , فأضافَتْ ( صباح ) :
- " وما زاد فيّ طولاً في تلك الفترة , زاد فيكِ عرضاً , فكلانا قد تغيّر ! "
بعض الأشخاص لا يوجد لديهم أدنى إحساس بالمتغيّرات الخارجية وضرورة التواءم معها ؛ لقد كانت ( صباح ) معتادةً على هذه المداعبات مع أمِّها , ولكنها ستكتشف قريباً جدًّا أن هناك فارقاً بين أن تتحامق على أمِّها وهما جالستان كاسيتان يتناولان الطعام , وبين أن تفعل ذلك وهي ممددة عريانة ومؤخرتها قد صارَتْ دعوةً مفتوحةً لكفّ أمها لتقلنها درساً ...
فارق ضخم بين الحالتين , فارق شديد الاحمرار وشديد الألم .. وشديد القدرة على تذكير الشخص بما فعله في كل مرة يحاول أن يجلس فيها !
**************
2- كان وشيكاً , فوقع !
___________________________________
حاولَتْ ( صباح ) أن تقنع نفسَها أنّ ما تشعر به ناشئٌ عن تصوّرِها لما سيحدث لها على يدِ زوجها , وليس ناشئاً عما تفعله بها أمُّها في هذه اللحظة !
وأيًّا يكنِ الدافعُ الفعليّ , فقد كانَتْ موشكةً على أن تنفضح ...
كانَتِ الصفعاتُ التي تهيلُها أمُّها على ردفيها الرجراجين كافيةً لإحداث الألم ولكنّها ليسَتْ كافيةً لاقتصار ما تُحْدِثُهُ على الألم ... لقد نشأ عنها _ بالإضافة إلى ألم الردفين _ ألمٌ فيما بينهما ... وجاهدَتْ ( صباح ) لتخفي ذلك ؛ ولكنّها كانتْ تعلم في أعماقِها أنّ أمّها تعي ما يحدث تماماً ...
وعلى الجانب الآخر كان تأويل ما يحدث أشقّ وأصعب على ( حميدة ) ؛ إذا كان عذر ( صباح ) فيما تجده من أحاسيس هو أنها تتشوّق لعقاب زوجها المقبل , فما هو عذر ( حميدة ) فيما تجده من أحاسيس ؟ لم تجد شيئاً تخبر به نفسَها سوى أنّها إنما تتمنّى هي الأخرى أن يصنع بها أبو ابنتِها مثلما تصنعه هي الآن بابنتِها ؛ لا شكّ أن هذا هو التفسير الدقيق لتلذّذها بما تفعله ...
ثم جاءها صوتُ ابنتِها العذب :
- " أميمتي ! أرجوكِ ! "
لم تتمالك ( حميدة ) نفسَها , كان قد مرّت سنون كثيرة بعد آخر مرة نادَتْها ابنتُها بهذا التصغير .. فتوقفَتْ عن صفعِها , ونظرَتْ إلى المؤخرة الفاتنة التي في حجْرِها , ولم تتمالك شعورَها بالفخر وهي تنظر إلى هذا الجمالِ الذي أنجبَتْه , وقالَتْ :
- " لا تسقط التفاحةِ بعيداً عن شجرتِها "
لو لم تكن ( صباح ) قد لقِّنَتْ درساً لتوّها , لأسرعَتْ بالردّ العابثِ , ولكنّ مؤخرتَها صارَتْ لها الكلمةُ العليا فمنعَتْ لسانَها من التلفظ بما لن يعود عليها إلا بالأذى , فكفّ اللسان عن لهوِه خوفًا من بطش الردفين المحمرّين غضباً به ! ولاحظَتْ أمُّها ذلك , فقالَتْ :
- " لا تعليقاتٍ ساخرةً ؟ "
- " لقد تعلَّمْتُ درسي ! "
هذا الصوتُ ! ... فكَّرَتْ ( حميدة ) أنه من الظلم أن يحمل المجتمع الأطفال على التخلي عن هذا الصوت في خطاب أمهاتهم بمجرد بلوغهم سنًّا معينًا ... هي لم تشبع _ ولن تشبع _ من سماع ابنتِها تتحدث بهذا الدلال ! وربَّتَتْ على مؤخرتِها فقامَتْ هذه من رقدتِها في حجرِ أمِّها وهي تستر من جسمها أشياءَ حياءً ممّن ولدَتْها , والأمّ لا تزيد على النظر والابتسام , فقالَتِ البنتُ محرجةً :
- " هلّا غادرْتِ رجاءً ! حتى أرتدي ملابسي ! "
- " ستستطيعين ارتداءَها وحدَكِ ؟ "
- " أمي !! "
- " حسناً , ولكنْ تذكيرٌ مهمّ : أي تجاوز آخر من هذه اللحظة حتى اللحظة التي ستنتقلين فيها إلى بيتِ زوجتِك سنتعامل معه بنفس هذه الطريقة . هل هذا واضح ؟ "
- " نعم , هذا واضح ! هل يمكن أن تغادري الآن , رجاءً ! "
- " حسنًا , ولكنْ استديري مرّةً أخيرةً حتى أتأكد من أن عقابكِ تمّ على أكمل وجه ! "
- " أمّي !! "
قامتِ الأم من جلستِها , فخافَتْ الابنة أن يكون هذا استفتاحاً لمزيد من العقاب , فاستدارَتْ بسرعةٍ , فابتسمَتِ الأم وفكَّرَتْ : متى كانَتْ آخرَ مرَّةٍ استجابَتْ فيها ابنتُها للأوامر بهذه السرعةِ ؟ ثم انشغلَتْ بالنظرِ إلى احمرار المؤخرة التي أدارتْها صاحبتُها لتقابلَها , وقالَتْ :
- " ربّما لأن هذه هي المرة الأولى سنكتفي بالوصول إلى هذه الدرجة اللونية , ولكن في المستقبل توقّعي أن يكون العقابُ أشدّ .. إذا فعلْتِ ما تستحقين العقاب لأجله بالطبع "
- " حسناً يا أميمتي ! "
- " حسناً يا صغيرتي , سأخرج الآن لترتدي ملابسكِ "
وعندما خرَجَتْ الأمُّ من الغرفة لم تكنْ ( صباحُ ) محتاجةً لارتداء ملابسها لفترة طويلة من الوقت !
************
أشار إليها لتتمدد على السرير , فتوسَّلَتْ له مرةً أخرى أن يعفو , فلم يعفُ ... فأطاعَتْ أمرَه ... وانتظرَتْ أن يرفع رجليها أو أن يطلبَ منها رفعهما , ولكنّ الخرطومَ هوى على مؤخرتِها ... لم يكنْ هذا ما سمعَتْ بأنه يحدث في السجون , ولكنّها خمّنتْ أنه نوعٌ من تخفيف العقوبة ... وإن كان ما تشعر به من ألم في ردفيها لا يترادف إطلاقاً مع كلمة " تخفيف " ...
ظلَّتْ الضرباتُ تهوي على ردفيها حتى تحولتْ صرخاتُها إلى بكاءٍ مفتوحٍ ... وسمعَتْ صوتَ طرقٍ متسارعٍ على باب غرفتِها ... فتوقعَتْ أن تكون أمُّها قد سمعَتْ صوتَ بكائها المرتفع , وتريد أن تعود للشفاعةِ لها ... ويبدو أن أباها توقّع ذلك أيضاً , فلم يبالِ بالطرْقِ , واستمرّ في عقابِها ... ثمّ عندما بدا أن العقابَ لن ينتهي أبداً ... توقّفَتْ الضرباتُ , فرفعَتْ عينين حجبَتِ الدموعُ عنهما معظمَ الرؤية , ولكنها استطاعَتْ مع ذلك أن ترى أباها وهو يتوجّه بسرعة جهةَ البابِ , ثم سمعَتْ صوتَ انفتاح الباب وصراخَ أبيها :
- " (سنيّة) ! ما الذي كنْتِ تفعلينه خلف الباب ؟ هل أنتِ من طرقَ البابَ قبل قليلٍ ؟ "
سمعَتْ ( بهية ) صوتَ أختِها الكبرى , وهي تجيب في ذُعْرِ شَخْصٍ لا يستطيع الكذبَ من شدة الخوف :
- " بل أمي كانَتْ هي الطارقة وقد راعها صوت بكاء ( بهيّة ) ! ثم لمّا لمْ تفتَحِ البابَ فقد ذهبَتْ للمطبخ حتى لا تسمع صوتَ الضربات والبكاء "
- " وما الذي كنْتِ تفعلينه خلف الباب على ركبتيكِ ؟ "
- " .... إمم ... لقد كنْتُ أنظر من الثقب ! "
- " لماذا ؟ "
- " .... "
- " أكنْتِ تخشين أن أقتلَ أختَكِ فأردْتِ التأكّدَ من سلامتِها ؟! "
أجابَتْ ( سنية ) غافلةً عن مغزى السؤال لفرط سعادتِها بأن وجدَتْ مخرجاً :
- " نعم ! هذا هو السبب ... "
ثم فطِنَتْ لما قالَتْه فاستدركتْ في سرعة :
- " .. أعني : لا ! .. لا , بالطبع أنت لن تؤذيَها وتريد مصلحتَها .. "
- " فما هو سبب تجسسك على أختكِ إذن ؟! "
ولمّا بدا أنّ الأمورَ لن تسيرَ على ما يرام , قالَتْ _ معترفةً _ :
- " لقد رأيْتُ ( بهيّة ) وهي تكتب تلك الورقة... المنشورَ .. وتضعه عمْدًا على مكتبكَ لتقرأه فخمّنْتُ سببَ فعلِها ذلك , وأردْتُ ... "
قاطعها أبوها :
- " مهلاً , ما هو السبب ؟ "
- " ..... "
- " ( سنيّة ) ! إن لم تصارحيني في هذه اللحظة بهذا المخطّط الأحمق الذي تقوم به أختك والذي ربما كنْتِ متواطئةً معها فيه , فأقسم أن أجعلَكما أنتما الاثنتين تذوقان وقْعَ هذا الخرطوم طيلة هذا الأسبوع يوميًّا ... "
أجابَتْ ( سنيّة ) في عجلةٍ :
- " هذا هو السبب ! "
- " ما هو ( هذا ) ؟؟!! "
رأتْ ( بهيّة ) أن الأمور سائرة إلى جهة خطيرة , فتدخلَتْ , وجاءَ صوتُها ليعيد انتباه الأبِ إلى ابنته الصغرى :
- " ما تريد ( سنيّة ) قولَه أننا نفتقد وجودَك في المنزل بسبب طول ساعات عملك , وأحياناً نتمنى أن تكون معنا في البيت زماناً أطول لتقوم بدورك معنا كأبٍ ! "
- " أنا لا أقصّر معكما ماديًّا , وأثني على تفوّقكما في المدرسة وفي الجامعة في كلِّ مناسبةٍ ! "
جاء دور ( سنيّة ) لترد على أبيها :
- " هذا هو الثواب .. ولكنْ ... إمم ... "
أكملَتْ لها أختُها :
- " ولكنّه غيرُ كافٍ , نحن بحاجة إلى من يقوّمنا إذا أخطأْنا ! "
استعادَتْ أختُها المبادرة , فقالَتْ :
- " وبما أن الأخطاء الطبيعية لا تصل إليك , فقد رأتْ ( بهية ) أن الأخطاء الصناعية ستكون أنجع في عودتِك للعب دور الأب والمربّي "
كان ( سالم ) في دهشة مما يسمع , وإن لم يكنْ وقعُ الكلام غريباً عليه ؛ فكأن ابنتيه تمثّلان دورَه على خشبة المسرح عندما كان في سنِّهما , وإن كانتِ المبادرةُ في حقِّه هو قد جاءتْ من أبيه إليه وليس العكسَ , فقال في هدوءٍ :
- " هذا المنشور لم يكن معدّاً لتقع عليه عينا أحدٍ غيري . أليس كذلك يا ( بهية ) ؟ "
- " بلى ! "
- " وأنتِ يا ( سنيّة ) رأيتِه على مكتبي , فلم ترفعيه ؛ لأنكِ أنتِ الأخرى تتمنين لو كتبتِ شيئاً مماثلاً لأقتنع باستحقاقكِ للعقابِ وأعاقبكِ . فرأيْتِ ألا تحرمي أختكِ مما ترغبين فيه . أليس كذلك ؟ "
- " بلى ! "
- " حسناً , قد أكون بالفعل منشغلاً معظم الوقت بسبب طبيعة عملي , ولكن من الآن فصاعداً : في يوم الإجازة كل أسبوع ستأتيان إلى مكتبي ومعكما قائمة بكل ما تريان أنكما تستحقان العقابَ بسببه مما صنعتماه طيلة الأسبوع , وسأعاقبكما عليه ... ما دام هذا ما تريدانه ... وأرى أن ( بهيّة ) قد نالتْ كفايتَها من العقابِ على هذا " المقلبِ " ولو كان حقيقةً وليس مقلبًا لاستمر عقابُها لساعاتٍ , فقد كنْتُ أنوي أن أجعلها تذوق ما يذوقه عاثر الحظ الذي تقع منشوراتُه في قبضتِنا حتى تعلم خطورةَ فعلِها ... أمَا وقد اتضح أنه مقلب فما نالتْه يكفي ... بقي أن أكرِّرَ ما فعلْتُه مع أختِها الكبيرة ... ( سنيّة ) ! "
- " أنا آسفة ! "
- " ذنبكِ ليس مثلَ ذنبِ أختِكِ , ولكنّك لا تزالين مذنبة باشتراكك _ولو ضمنًا _ في " عملية المنشور " هذه , وبتجسسك على أختكِ .... وبما أنكما ستعاقبان معاً من الآن فصاعداً , فلا معنى لخروج ( بهية ) وانتظارها في الخارج حتى أفرغ من عقابكِ , والآن انزعي ثيابكِ وتمددي على سريركِ كما ترين أختكِ تفعل "
نزعَتْ ( سنية ) ثيابَها وهي تشعر بوقع عين أختها وأبيها عليها , فتضاعف خجلُها , ثم تمددَتْ على سريرها , ودفنَتْ وجهها في مخدتِها ... وانتظرَتْ وقوع الخرطوم على مؤخرتِها .. ولكنّ ما شعرَتْ بوقوعه على ردفيها لم يكنِ الخرطومَ... فالتفتت بوجهها لترى أباها واقفاً جوار سريرِها , ففسر لها :
- " سندّخر الخرطومَ للمخالفات الجديّة ... وفيما دون ذلك سيكون عقابكما بيديّ . حرفيًّا ! "
كان أوّل ما تبادر إلى ذهن ( سنية ) هو الأسى لأختِها التي نالَتْ عقاباً أشد ... ولكن بعد بضعة صفعاتٍ .. بدأتْ ( سنية ) تشك في أن هناك فارقاً بين الخرطوم وبين يد أبيها ؛ وإن كانَتْ لم تجرّب وقع الخرطوم ليكون إحساسُها ذا قيمة علميّة !
وبعد بضعة صفعاتٍ أخرى بدأ الاحمرار يغزو مؤخرتَها وينشر جنوده في كل موضع تصله يد الأب , وكانَتْ اليد تصل إلى كل ما يمكن الوصول إليه بخلاف الخرطوم محدود المساحة وصعب التحكم ... ثم بعد بضعة صفعاتٍ أخرى بدأ نحيبُ ابنة العشرين في الازدياد حتى اكتسب نغمةً ثابتةً , وشعرَتْ أختُها بالأسى لها , ولكنّ انشغالَها بالألم الذي لا يزال متّقداً في عجزِها قد ألهاها عن الانشغال بمشاعر غيرِها ...
ولما بلغ الأب ما نوى أن يجعله الصفعات الأخيرة زاد في قوتِها حتى بدا أن ( سنية ) ستصرخ صراخاً منكرًا لو استمر طويلاً في هذه الصفعاتِ العنيفة ... ولكنّها انتهَتْ سريعاً , ثم جاء صوتُ الأب :
- " هل تعلمْنا درسَنا ؟ "
جاء صوتُ الابنتين جميعاً :
- " نعم يا أبتي ! "
فقبّل ( سالم ) جبين ( سنية ) ثم انتقل إلى أختها الصغيرة فقبّل جبينَها , ثمّ قال _في لهجة مسرحية ذكَّرَتْه بأدائه في أقسام الشرطة في جلسات التعذيب _ :
- " من الآن فصاعداً لا جريمةَ بدون عقابٍ "
وعلى الرغم من مسرحية العبارة , فقد تفاعلَتْ معها البنتان , واعتذرتا في تذلل وتأدب , وفكّر ( سالم ) في أنهما على الأغلب تمثّلان هذا التذلل والخضوع . ولكنّه قرر أن تكون تلك العبارة هي جمْلتَه الأخيرة , وغادر الغرفة وأغلق بابَها وراءَه , ليقابل الأمّ المندهشة مما حدث , والتي تسأل عن مصير ( سنيّة ) وعما إذا كان لحقها ما لحق بأختِها , وأرادَتْ أن تذهب لغرفة البنتين لتطمئنّ أنهما بخيرٍ , فأصرّ الأب على ألا تفعلَ , ليتركا البنتين تتعافيان مما تعرضتا له للتوّ .
وكان لدى ( سالم ) شبْهُ يقينٍ بأن البنتين _ مباشرةً بعد خروجه _ ستنخرطان _كلّ على حدة_ فيما سيخوض فيه هو وزوجته معاً فيما بعد !
***************
قال الأبُ في ميكانيكيّة رتيبة وكأن الأمرَ لا يعنيه :
- " من النصائح القيمة للورد ( بليذن ) أن يتم العقاب في حضرة مَنْ تجاوَزَ "الغلامُ" _واللفظ للورد _ في حقّه , واستحق العقابَ بسبب ذلك ! "
كان ( سالم ) لا يزال مدهوشاً من رؤية أبيه له عارياً في هذا السن , ومدهوشاً من تصاعد الأحداث فجأة لتكون هذه الرؤية مقدمة لعقاب جسديّ , ولكن ذهولَه بسبب وقوف البوّاب بجوار أبيه كان يفوق أيّ شيءٍ اندهش له في حياتِه , حاول أن يقول شيئاً , ولكن الجملة الأولى كانَتْ من نصيب البوّاب :
- " لا يوجد داعٍ يا سعادة الباشا , أنا أكثر من مسامحٍ في حق أيّ تجاوزٍ من الباشا الصغير ؛ نحن نحملكما في أعينِنا ! "
ردّ ( سمير ) :
- " من أخطأ يحاسَب , وكلما زاد قدْرُ المخطئ زادتْ محاسبتُه ، وإلا فإن المركز والمكانة بدلاً من أن تجعله أفضل من غيرِه ستجعله أسوا ... حتى لو كنْتَ مسامحاً في حقِّكَ فأنا لسْتُ مسامحًا في صلافةِ ابني في التعامل معك , وبما أنك تطيع أمري على حسب ظني ... "
قاطعه البوّاب :
- " نحن نخدمك بأعينِنا يا سعادة الباشا ! "
أكمل ( سمير ) :
- " ... فإنك ستفعل ما أطلبه منك , وستشهد عقاب هذا "الغلام" , _ وتسمية غلام هذه من ابتكارات اللورد ( بليذن ) في حق كلّ من يستحقون العقاب _ .. في الواقع إذا استمرَرْتَ في الاعتذار من شهود عقابِه فسأجبرك على أن تعاقبَه بنفسِك ! "
ردّ البوّابُ في ذعرٍ :
- " إلا هذه يا سعادة الباشا ! "
- " حسناً إذن , اجلس على هذا الكرسيّ , وشاهد عقابَه , ولا تشفع له أو تعتذر له , وإذا فعلْتَ ذلك فسنخرج أنا وأنتَ بعد الفراغ من عقاب "الغلام" , وسأحبوك بربع جنيه كامل , وإن بدأت في الشفاعات والاعتذارات ومحاولة إلانة قلبي عليه , فستقوم أنت بإكمال عقابِه , ولن تحصل على أيِّ مالٍ ؛ هل هذا واضح ؟ "
ضغط البوّاب على نفسِه , ليحملَها على طاعة الباشا الكبير _ وإنْ كانَتْ هذه الطاعةُ تفيد ضمنًا إهانةَ الباشا الصغير _ فقال :
- " أمرك يا سعادة الباشا ! "
ثم توجَّهَ للكرسيّ وجلس إليه ...
كان ( سالم ) طيلة هذا الحوار يتمنى أن تنشق الأرض وتبلعه .. فلمّا توجّه إليه أبوه .. أبصر في جلاءٍ ما يحمله في يدِه , وسأل في توجّسٍ :
- " فرشاة شعرٍ ؟ "
- " نصيحة أخرى قيّمة من اللورد ؛ في الواقع هذه فرشاة شعر المرحومة أمك ؛ حتى تعلمَ أن عقابَك واقعٌ ممن أنجبك بفرشاة شعر مَن أنجبتك , فتكف عن اعتبار نفسِك " كبيراً " , وتستعدّ لعقابِك دون لغطٍ "
ثم جلس الأبُ بجوار ابنِه على سريرِه ... والابن لا يزال مستحييًا من أن ينظر أمامه لئلا تقع عينُه على عين البوّاب ... وهو لا يدري ما الذي يخطط له أبوه بالضبط , ولا لماذا جلس ... وجاءه الجوابُ في أغربِ صورةٍ ممكنة عندما تقوّس على فخذي أبيه وصار كفا يديه وقدماه طرفين للقوس وصارتْ قمةُ القوس مؤخرتَه ! وكان يدرك التفسير الذي سيسوقه أبوه , وبالفعل فقد جاءَتْ كلماتُ الباشا :
- " نصيحة أخرى قيّمة من اللورد ! أن يعاقَبَ " الغلامُ " على هذه الهيئة , حتى يدرك مكانَه في هذه الدنيا ؛ عاريًا مقلوبًا تقابل مؤخرتُه الشقيّة صفعاتِ مؤدّبِه , وهو لا يملك حتى حمايةَ مؤخرتِه من الصفعات ! "
كانَتْ هذه الغرفة في هذه اللحظة تضم ثلاثة رجال تفصل بينهم عوامل السن والمكانة والثقافة , ويجمع بينهم شيءٌ واحدٌ كلّهم يتمنى ألا يعلم الآخران به !
وعندما بدأتْ فرشاةُ شعرِ ( صباح ) في إيجاع مؤخرة ابن ( صباح ) وَجَد زوجُ ( صباح ) نفسَه يتذكر المرحومةَ ؛ أو على الأقل يقنع نفسَه أنّ ما يمرّ به سببُه تذكّرُ المرحومة ! وزحزح ابنَه تدريجيًّا لِتقتربَ بطنُ الابنِ مِن ركبتَيْ الأب , لتعطي مساحةً للباشا ليتذكر المرحومةَ زوجتَه! وشعر بأن ابنَه هو الآخر يتذكّر حبيبةً له لعله قابلَها أو شيئاً من هذا القبيل , وإلّا فما هذا الذي يشعر به في جانب رجلِه ؟
وفي نفس اللحظة كان البوّاب يتمنى أن يكون من الطبقة العليا في المجتمع ؛ لا ليتمتع بمالها وثرائها ومكانتِها , ولكن ليجوز له أن يضع رجلاً على رجلٍ في حضرة هذا الباشا ؛ ليخفي ما لا يشكّ في أن الباشا وابنه كانا ليُعْدِمَاه لو نظرا تجاهه فرأياه !
ولم يكن البوّاب يعلمُ أن معاناة ( سالم ) لا ترجع بالدرجة الأولى إلى الألم الذي ينتشر في ردفيه كانتشار النار في الهشيم , بل ترجع بالدرجة الأولى إلى نفس المخاوف التي تراود البوّاب ... ولكنْ _خلافاً للرجلين البالغين _ فقد كان " الغلام " لا يمتلك ترف أن يَسْتُر سرَّه بالملابس, وعاجلاً أو آجلاً سينتهي عقابُه ويَطْلُبُ منه والدُه القيام , وسيرى الباشا _ إن لم يكنْ قد أحسّ بالفعل _ والبوّابُ حينَها أنّ الولد كان يحتاج العقابَ لأسبابٍ بعيدة كلّ البعد عمّا تشرحه نظريّات الجريمة والعقاب في كليات القانون !
كانَتْ جلسةُ العقابِ هذه "مؤلمةً " للجميع , وما أنِ اطمأنّ الأبُ إلى وصولِ مؤخرة ابنِه إلى درجة حرارةٍ كافيةٍ لإنضاج الطعام عليها .. حتى قرَّر في نفسه إنهاءَ عقابِه , ولكنّه لم يدرِ ما الذي يصنعه بعد ذلك , بإمكانه أن يأمر ابنَه بالنهوض , ولكنّ الأب يحتاج إلى أن يستمر جالسًا وإلا افتضح ! ثم وجد مخرجاً غريباً , ولكنّه مَخْرَجٌ , فقال في صوتٍ تعمّد أن يجعله يبدو قاسيًا :
- " ما الذي استحقَقْتَ العقابَ بسببه يا ( سالم ) ؟ "
كان ( سالم ) هو الآخر قد أدرك انتهاءَ العقاب , وهيّأ نفسَه للمصيبة القادمة , ولكنّ السؤالَ فاجأه , فأجاب :
- " لم أتحدّثْ بطريقة لائقة مع البوّاب ! "
- " وهل تعتقد أنّ مشاهدته لعقابِك كافيةٌ في تعويضه عن الضرر النفسانيّ الذي لحقه بسبب ما فعلْتَه ؟ "
لم يكنِ البواب يعلم ما هو الضرر النفسانيّ بالضبط , ولكنّه أدرك ما يوشك أن يقع تماماً كما أدركه ( سالم ) , الذي اكتفى في الإجابة على أبيه بكلمة واحدة :
- " أرجوك ! "
- " أرجوك ماذا ؟ "
- " لقد تعلَّمْتُ درسي , لا حاجةَ للمزيدِ ! "
بدا للأب أن ابنه _لسببٍ ما _ بحاجة للمزيد , خلافاً لما يقوله ! ولكنّ الأبَ لم يدرِ ما الذي اعتمد عليه بالضبط للوصول إلى هذه النتيجة ؛ أو على الأقلّ لم يشأ أن يصارح نفسَه بالسبب الحقيقيّ الذي اعتمد عليه للوصول إلى هذه النتيجة .. ولكنه قال في هدوءٍ :
- " الآن ستذهب للبوّاب ليكمل عقابَكَ لأنه هو من تعرّض لسوء أدبك , وهو أحقّ بأن يجازيَك عليه ! "
كان ما يخطّط له الأب أن ينتقل ابنُه ليعاقبَه البوّاب , وفي هذه الفترة _بمعجزةٍ ما _سيكفّ عن "التفكير في المرحومة زوجتِه" , وتنتهي "المشكلة" , ويقوم ليغادر مع البوّاب ... ولكنّ ما حدث بعد ذلك خيّب كل هذه الآمال ...
ما إن قام ( سالم ) حتى قام معه شيءٌ آخرُ , وظهر أمام الباشا والبوّاب أن " الغلام " قد صار رجلاً مكتمل الرجولة , على الأقل على المستوى الجسدي ... ولكنّ هذا المشهد قد زاد من "تذكر الباشا للمرحومة زوجته "...
ثمّ نظر ( سمير ) إلى البوّابِ _وهو يتوقع أنه سيعترض على معاقبة الباشا الصغير_ فرآه قد اكتسب جرأةً عجيبةً إذ وَضَعَ إحدى رجليه على الأخرى وكأنه باشا ابن باشا , وكاد ( سمير ) يعنّفه على فعلِه , ولكنّه فطن في اللحظة الأخيرة أنّ البوّابَ لا بد أنه " يتذكر هو الآخر زوجتَه " بنفس المنطق الذي دفعه لتذكّرِ زوجتَه!
وما إنْ توجّه ( سالم ) لمعاقبِه الجديد _ الذي تخلى عن عقد رجليه عندما اقترب منه ( سالم ) _ , حتى تخلى الفلّاحُ عن كلّ مفاهيم الطبقية والمكانة , وأمسكَ بابن الباشا إمساك صقرٍ بحمامةٍ , وألقاه على فخذيه كما رأى الباشا يفعل , وأهوى على مؤخرتِه بيده صفعاً... وشعر ( سالم ) بكلّ شيءٍ إلا الألم .. شعر بعيني أبيه ترمقانه بينما يدُ أبيه تحاول أن تزيدَ اتساعَ بنطالِه الذي ضاق فجأةً فلم يعد يتّسع له , وشعر بوتدٍ "مجهول المصدر " يحتكّ ببطنِه كأنه مُمَدَّدٌ على ثعبانٍ , وشعر برجليه تتحركان جيئةً وذهوبًا على فخذ معاقبِه كأن ثَوْبَ البوّابِ قد غُمِس في العطر وهو يحاول أن يَعْلَقَ بأسفلِ بطنِه شيءٌ من هذا العطر ؛ أو على الأقل هذا هو التفسير " المهذّب" الذي ارتضاه لِمَا يحاول أن يصنعه ..
كلّ هذا ويد البوّاب تهوي على مؤخرتِه بصفعاتٍ لو كانتْ في غير هذا السياق لعوى لها ألماً , ولكنّه في هذا السياق لا يشعر بشيءٍ من ألمِها , بل هو منشغل بـ"تعطير بطنِه" !
وعندما بدا أنّ انكشاف سرّ البواب والباشا أهونُ مما يوشكُ أن يقعَ , قرّر ( سمير ) أن ينهي عقابَ ابنِه , فطلَب من البوّاب أن يتوقف , ولكنّ هذا الأخير كان منشغلاً عن تلبية طلبِ الباشا الكبيرِ بمؤخرة الباشا الصغير , فكرّر الأبُ الطلبَ وقد رفع صوتَه , فتوقّف البوّابُ , أمّا الابن فقد خانَه فمُه وندتْ عنه صيحةُ احتجاج خافتة , ولكنّ البالغَيْنِ تجاهلاها ... ثم قال ( سمير ) :
- " أعتقد أننا قد طبقْنا نصيحة اللورد ( بليذن ) فيما يتعلق بصفع " الغلام " وبقيَ جزءٌ يسمّيه هو رعاية ما بعد العقاب , ولكنّي أرى _ بالنظر إلى ما نحن فيه _ أنّ هذا هو آخرُ ما نريده ... وعليه فلْنَتْرُكِ " الغلامَ " وحيداً ليفكّرَ فيما استحقّ العقابَ بسببه , ونعودَ نحن لمشاغلِنا ... "
كانتْ هذه الدعوة الأخيرة موجّهة للبوّاب الذي لا يزال يحدق بالمؤخرة المستقرة في حجْرِه , وكأنّه يتأسف لفراقِها الوشيكِ , فلمّا أتمّ الباشا كلامَه , نبّه جزءٌ صغيرٌ متبقٍ من العقلانية في عقل البواب .. نبّه هذا الجزءُ سائر العقلِ إلى أن يتذكر أين هو ومكانةَ هذا المتمدد على حجرِه , فعاد البوّاب _ بعد التذكرة _ إلى اللين في الكلام :
- " بالطبع يا سعادة الباشا , وأريد أن أكرّر _بما أنني انتهيْتُ من تنفيذ أوامر سعادتِكم_ أنّ الموتَ كانَ أحبَّ إليّ من فعلِ كلّ هذا , لو لم تكونوا سعادتَكم قد أمرْتُم به ! "
كان هذا الكذبُ فجًّا , ولكنّ الجميع رضي عنه ؛ إذ ليس هذا مكانَ الصدق على الإطلاقِ , فالتقط الأب الخيطَ , وقال :
- " بالطبع ! وأنا أيضاً كنْتُ أتمنى ألا أحتاجَ إلى مثل هذه القسوة في التعامل مع وحيدي , ولكنّ حرصي عليه أعظم من شفقتي الأبويّة ! "
كان هذا دورُ ( سالم ) _الذي لا يزال مستقرًّا بإرادتِه في حضن البوّاب _ , فقال :
- " وأنا كنْتُ أتمنى ألا أضطر أيًّا منكما للقيام بما تكرهانه تفانيًا من أجل تقويمي , وأعِدُ ألا أعود لمثل هذه الأفعال ! "
ثم قام من رقدتِه وسرّه مفضوح للرجلَين , وقاما هما أيضاً وسرّهما مفضوح لمن يكلّف نفسه النظرَ إلى بنطال هذا وثوب ذاك , واستقرّ ( سالم ) على سريرِه , وقد خرج أبوه وبوّابُه معاً , وكان آخرَ ما سمِعه منهما قبل أن يبتعدا عن غرفتِه قولَ الباشا للبوّاب :
- " هذا جنيهٌ كاملٌ جزاءَ طاعتِك ! "
وردّ البواب :
- " شكراً جزيلاً يا سعادة الباشا ! ولكنّ ذلك كان أغلى عندي من كل أموال الدنيا ... وأعني بـ"ذلك" طاعتَكم بالطبع ! "
فابتسم الأب والابن معاً وهما يتذكّران مشهدَه وهو مستمع بـ " طاعة الباشا " ...
كان هذا آخر ما سمعه ( سالم ) من الرجلين في تلك الليلة , ثم افترق ( سمير ) والبوّاب بعد أن تبادلا بضعة جمل أخرى لم يسمعْها ( سالم ) , وبالرغم من أن ثلاثهم قد افترقوا مباشرةً بعد انتهاء جلسة العقابِ , فإنّ الصباح لم يطلع حتى كان كلّ واحدٍ منهم قد استدعى طيف الرجلَيْنِ الآخرَينِ ؛ ليصوِّرَ لنفسِه كلّ ما حدث في تلك الجلسة من أحداثٍ ثم يزيدُ عليها من عنده!
*********
كان ( بدر ) قد طرح أختَه أرضاً في نفس اللحظة التي فتحَتْ أمُه فيها البابَ ؛ يا لها من مصادفةٍ !
كان يعلم أن أمّه ستتنبّه إلى ما حدث عاجلاً أو آجلاً , ولكنّه قرر التمادي في الانشغال بهذه اللحظة عما بعدها , وعندما طلبت منه أن يدنو منها ليستقر في حجرها كما كانتْ تفعلُ به قبلَ أربع سنين , أطاعها بلا نقاش , وعندما بدا أن فرشاة الشعر واقعة لا محالة على ردفيه العارييْنِ , جاءه السؤالُ _ أسرع بكثيرٍ مما توقع ! _ :
- " كيف تصادف أنك توقع أختَك أرضاً في نفس اللحظة التي أفتح فيها البابَ ؟ ثمّ لماذا لم تبدأ هي في الولولة وشكواك إليّ كما تفعل في كلّ مرة تسيء فيها إليها , _وإن كان ذلك قد توقف قبل أربع سنين لأكون محقة _ ؟ "
- " إمم ... لقد كانَتْ مصادفةً كما ذكرْتِ ! "
وقعَتْ فرشاةُ الشعرِ على مؤخرتِه كعقابٍ على كذبِه , ولكنّ أمَّه فطنَتْ إلى أنها لو كانَتْ محقَّةً في حدسِها فهذا هو آخر شيءٍ سيدفع ابنَها للتخلي عن الكذب ! فسألَتْ في هدوءٍ :
- " هل تعمَّدْتَ أن يتصادف طرحك لأختك أرضاً مع مجيئي من العيادة ؟ "
جاء الردّ ملتوياً :
- " أنا لم أفعل شيئًا مصطنعًا يؤذي ( سوسن ) ! "
كانتْ هذه هي الإجابةُ التي توقعَتْها ( بهية ) ؛ صغيرُها الذكيّ يحاول أن يتلاعب بالكلمات حتى لا يكذب وفي نفس الوقت لا يخبرها بالإجابة ؛ إنه بسبيلِه لأن يصير في مثل ذكاءِ أمّه !
ولكنْ حتى ذلك الحين فلا يزال ذكاؤها يفوق ذكاءه بكثير , فسألَتْه :
- " هناك شيئان وقع عليهما النفيُ في جوابِك ؛ الأول هو كون ما فعلْتَه مصطنعاً , وهو ما سألْتُ عنه , والثاني هو كون ما فعلْتَه يؤذي ( سوسن ) وهذا شيءٌ لم أسأل عنه , وبما أنّك نفيْتَ وقوعهما مجتمِعَيْنِ فأنت لم تنفِ وقوعَ ما سألْتُ عنه تماماً ؛ ولذا فسأكرّر السؤالَ في صيغةٍ أخرى : هل ما فعلْتَه كان مصطنعاً ليتوافق مع دخولي إلى البيتِ _ سواءً تأذَّتْ به ( سوسن ) أم لا _ ؟ "
- " في المعتاد لا يفطن أحدٌ إلى هذه الألعاب اللفظية ! "
- " ومن تعتقد أنه أورثك هذه القدرة على الألعاب اللفظية ؟ لقد كنْتُ بطلةَ العالم فيها ! والآن : إجابةَ السؤالِ رجاءً ! "
- " حسناً , لقد اتفقنا جميعاً على أن نرتب هذا المشهد ليتصادف مع دخولِكِ إلى المنزل ! "
جاء الصوتُ الأنثوي من خلف الباب خافتًا :
- " أيها الوغد ! "
لم تتمالكْ ( بهية ) نفسَها من أن تفكّر : ( تماماً كما فعلَتْ ( سنية ) ! صدق من قال : ما أشبه البنتَ بخالتِها ! ) . ثم رفعَتْ ( بهيّةُ ) صوتَها :
- " ( سوسن ) ! كفّي عن التجسس على أخيكِ . وافتحي الباب وادخلي "
دخلَتْ ابنة الثامنة عشرة وهي تتظاهر بالانصياع التامّ لأمّها التي فطنَتْ لأول مرة أن حبَّها لابنتها ربما قد يكون أعمى عينيها عن شقاوتِها التي تخفيها خلف قدرتِها الفائقة على التمثيل . ثم قالَتْ :
- " ما الذي كنْتِ تفعلينه قبلَ قليلٍ ؟ "
ردّ ( بدر ) بدلاً من أختِه :
- " إنه لم يكنْ تجسّسًا عليّ ! "
فأجابَتِ الأمّ :
- " صدقْتَ ؛ لأنكما اتفقْتما على أن من حقِّها أن تشاهد عقابَك من ثقب الباب , والتجسس لا يكون بموافقة المتجسَّس عليه ؛ هلا كففْتَ عن التذاكي حتى أسمع اعترافَ أختِكَ بذنبِها ؟ "
ثم نظرَتْ ( بهيّة ) إلى ابنتِها التي إما أنها تجيد التمثيلَ إجادةً فائقةً أو أنها بالفعل على وشك أن تخبر أمَّها بكل شيءٍ , وتطلعها على الحقيقة كاملةً , فقالَتْ ( سوسن ) :
- " لقد كان ( بدر ) يقول إنني طفلة مدللة , وأنني لم أتعرض يوماً للعقابِ على يديكِ كما فعل هو , فقلْتُ : إنّ هذا راجعٌ إلى شقاوتِه وأنني فتاةٌ مؤدبة , فقال لي : إنه مستعدّ لأن يظهر لي عمليًّا أن الأمر راجع إلى التفضيل على أساس الجنس , وأنّنا لو قمنا بنفس الفعلِ لعاقبْتِه على فعلَتِه , وصفحْتِ عني , فقلْتُ له : لم يعدْ هناك سبيلٌ لإثباتِ ذلك الآن , فقد كبرْنا ولن تعاقبي أحدَنا في هذا السنّ , فقال : إنه مستعدّ لإثبات أنه لا يزال عرضةً للعقاب حتى وهو في هذه السنّ , وسيثبتُ لي عمليًّا أيضاً هذا الأمر , ثم بعد ذلك بإمكانِنا أن نتفق على عمل " شقيّ " نقوم به معاً وينكشف أمرُنا معاً وسأرى حينها _ والكلام له _ كيف ستعاقبينه وحدَه وتتجاوزين عنّي ! "
كان هذا هو دور ( بدر ) لينظر شزرًا لأختِه التي خطَتْ خطواتٍ كبيرة في الإفصاح عما حدث ....
كانت ( بهية ) تضحكُ في داخلِها من تشابه فعلهما مع ما فعلَتْه هي وأختُها في الماضي, بينما تحاول في الظاهر أن تتظاهر بالصرامة والاستياء مما فعله المراهقان , وقالَتْ وهي تجاهد الضحكَ :
- " فوفقاً لهذا المخطط فقد كان عليّ أن أصَدِّق أن هذا الأمر غير مفتعلٍ , وأعاقب ( بدراً ) عقاباً كاملاً , فيثبت لكِ أنكما لا زلتما عرضة للعقاب , ثم فيما بعد تقومان بما يوجب العقاب فإن عاقبْتُكما معاً فلا يوجد تفضيل على أساس الجنس , وكل ما مضى في حق ( بدر ) ولم تتعرضي له أنتِ كان مستحقًّا , وإن اقتصر العقابُ عليه فأنا ظالمة ؛ أفضِّل ابنتي على ابني ! هل هذا هو الدافع وراء ما فعلْتماه ؟ "
قال ( بدر ) :
- " ليس بالضبط ! "
كان هذا هو دورُ ( سوسن ) لتنظر شزراً لأخيها , وإن كانَتْ أمّهما تعلم من البداية أنّ وراءَ هذا الفعلَ ما هو أبعدُ من " التجربة العملية لوجود تمييز على أساس الجنس في أسرة ذات عائل واحد هي الأم " , أو أيًّا تكنْ تبريراتُ صغيرَيْها لدوافعهما ...
فتوجَّهَتْ ( بهيّة ) بالسؤال لابنِها :
- " فما هو الدافعُ بالضبطِ إذن ؟ "
- " هل لي أن أقْحِمَ فرويد في الموضوع ؟ "
- " لا ! "
- " حسناً , فلنجرِّبْ شيئًا آخر : لقد كان عقابُكِ لي _على الرغم من ظاهره المكروه_ يحمل في طيّاتِه اهتماماً منك بي وبمستقبلي , وأختي _التي لم تتعرض له_ تغار من اختصاصي بهذا الأمر الذي يفترض أن تفرح بعدم مقاساتِها له ! "
- " هذا أفضلُ من إقحام فرويد في الموضوع , وإن كنْتُ قد بدأتُ أقلق من ذكائك ! "
كانتْ ( سوسن ) قد اعتادَتْ هذه الحوارات "الغامضة" بين أمِّها وأخيها , ولكنّ ما شد انتباهها في هذا الحوارِ هو كلام أخيها عن غيرتِها ؛ كان محقَّا في هذه الجزئية , وإن كان ما تغار بسببه ليس بالضبط هو " إظهار الاهتمام والحرص على المستقبل " , لقد كان شيئاً آخر لا تعتقد أن أخاها أو أمَّها لديها أدنى فكرة عنه ؛ ثم من هو فرويد بالضبط ؟! لقد سمعَتْ اسمَه من قبل !
ثم جاءَها صوتُ أمِّها :
- " هل أخوكِ محقّ يا ( سوسن ) ؟ هل تريدين أن أعاقبَكِ ؟ "
- " في الماضي : نعم ! ولكن أين السبيلُ إلى ذلك ؟ , أمّا في الحاضر : فأعتقد أنني أكبر سنًّا من أن تعاقبيني ! "
كانتْ هذه إجابة شاردة تجيب بها التوأمُ بينما توأمُها عارٍ مستلقٍ في حجر أمه وفرشاة الشعر في يد مُعَاقِبَتِه تنتظر أن تهوي على ردفيه ! ولذا قد اقتصرَتْ ( بهيّة ) في الجواب على ابنتِها بالإشارة إلى الجسد الممدد أمام عينيها , فأجابَتِ ابنةُ الثامنة عشرة :
- " ولكنني أكبرُ منه ! "
- " بساعةٍ ؟! "
- " هذا لا ينفي أنني أكبرُ ! "
كان هذا دورُ ( بدر ) ليفقد أعصابَه :
- " فهل تعنين أنه ليس أمامي سوى ساعة واحدة حتى أصل إلى السنّ الذي أكون فيه قد تجاوزْتُ مرحلة التأديبِ ؟!! "
قالَتْ ( سوسن ) :
- " متى قلْتُ هذا ؟! "
تدخَّلَتِ الأمُّ , وقالَتْ :
- " ( سوسن ) يا حبيبتي ! أنتِ _ وإن كنْتِ أكبرَ _ إلا أنك لا تزالين طفلتي الصغيرة التي ينتهي بها الحال _إن أساءَتْ_ على حجْرِ أمِّها تتلقى عقابَها ؛ وقد شارَكْتِ في هذه المسرحية المفتعلة مع أخيكِ , وهذا ذنبٌ كافٍ لحلولِ العقابِ المستحقّ لطفلتي الصغيرة. وسأفرغ لعقابك بعد عقابِ أخيكِ. هل لديكِ اعتراضٌ على ذلك ؟ "
جاء الصوتُ الخافتُ :
- " لا ! "
- " حسنًا إذن ! انتظريني في غرفتِكِ ! "
- " لماذا لن تعاقبيني هنا ؟ "
- " في غرفةِ أخيكِ ؟ لأنه أخوكِ , لا يصحّ أن يراكِ في الهيئة التي سأعاقبكِ عليها ! "
- " ولكنّي أنا أراه في الهيئة التي تعاقبينه عليها ! "
نظرَتْ ( بهيّة ) إلى ابنِها العاري تحت مرأى أختِه , وهمَّتْ أن تقول شيئاً , ولكنّ ( بدراً ) سبقها :
- " المزيد من التمييز على أساس الجنس ؛ وكأنني لا أخجل من رؤية أختي لي عاريًا , بخلافِها هي ؛ ومن ثمّ فليس لي خصوصية لتُحْتَرمَ خلافاً لخصوصيّتِها المُحْتَرَمة ! "
جاءَه صوتُ أمِّه :
- " ( بدر ) , كفّ عن الإجابة بالنيابة عنّي ؛ لأنّ ما ذهبْتَ إليه خاطئٌ . "
كانَتْ ( سوسن ) _على الذي يظهر_ تميل إلى تصديق تفسيرِ أخيها , فسألَتْ في حدّة :
- " فما هو السبب إذن ؟ "
ولمّا سمِعَتْ الأمّ حدّةَ ابنتِها الغافلةِ قرَّرَتْ ألّا تبالي بخصوصيَّتِها _ كما طلبَتْ _ , فقالَتْ :
- " السبب أنني أتذكّر في أيِّ يومٍ من أيّام الشهر القمريّ نحن , وخلافاً لأخيكِ فلن يكون ما أنزعه عنك لأعرّيكِ مقتصراً على الملابسِ ! "
كان هذا دورُ ( بدر ) ليحاول منْعَ نفسِه من الضحك , ولكنّه لم يستطع كبح جماحِ ضحكةٍ انفلتَتْ من شفتيه عندما قالَتْ أختُه في صوتٍ منكسرٍ :
- " سأنتظر في غرفتي ! "
وعندما انغلق البابُ تاركاً الأمَّ وابنَها وحدَهما , لم تضيّعْ ( بهيّة ) وقتًا في إلهاب مؤخرةِ ( بدر ) بالفرشاة , ووصل صوتُ الصفعات والصرخاتِ إلى ( سوسن ) المتوجّهة إلى غرفتِها فأذهبَ بعضَ حرجِها الذي كانتْ تجده , وابتسمَتْ في رضا ؛ إن كان سيضحك على فطرتِها الأنثوية فلتضحكْ هي على صراخِه الطفوليّ وقد تبدّدَتْ ذكوريّتُه الزائفةُ على يد أمِّه !
وبعْدَ ضرباتٍ كثيرةٍ بفرشاةِ الشعرِ انتهَتِ المعركةُ ونتج عنها انتصارُ الاحمرار وبسطه سلطانَه على كامل الأراضي الاستهيّة , واضطرار ماءِ العين إلى الإبحار خارج القناة الدمعية الواصلة إلى الأنفِ , ليسيل في انسيابٍ على أراضٍ يابسة لم يبحِرْ بها منذ أربع سنين سابقة في مناسبة مشابهةٍ ؛ لأن الذكورَ لا يبكون إلا في حجْرِ أمّهاتِهم فمتى شبّوا عن هذا الحجْرِ امتنع في حقِّهم البكاءُ ... ولكنْ إن عادوا إلى حجْرِ أمّهاتِهم عاد البكاءُ ليكون حقًّا لهم !
وقالَتِ الأمّ لابنِها الذي انشغل بالبكاء عن إدراكِ أنّ عقابَه انتهى :
- " لا أريدُ أن أعود من يوم عملٍ طويلٍ لأجدَك أنتَ وأختُك قد جعلْتما الصالةَ مسرحاً وبدأتما في التمثيل لتريا ردَّ فعلِي , وتكشفا حقيقة ما حدث في الماضي ؛ هذه ليستْ مسرحيّة ( هاملت ) ! "
ومن بين دموعِ المراهقِ جاءَتْ إجابتُه :
- " هذا تشبيهٌ لا بأسَ له ! "
فهوَتِ الفرشاةُ على مؤخرتِه مرّةً أخيرةً فعاد للنحيبِ , وقالَتْ أمّه :
- " ولا أريدُ أن أسمع مزيداً من التذاكي في المستقبل ؛ لقد كنْتُ أعاقبك على مثل هذه الردود المتذاكية قبل سنين , ولا أرى مانعاً من أن تكونَ سبباً في عقابِكَ الآن ؛ أيّ ردٍّ متذاكٍ آخر وستجد نفسَك مباشرةً في حجري والفرشاة قد نابَتْ عن لساني في إقناعِكَ بسخافةِ ردِّكَ . هل هذا مفهوم ؟ "
- " نعم , يا أمي ! "
- " حسناً , هل تذكر كيف كان ينتهي بك الحال في جلساتِ العقابِ هذه قبل سنين ؟ "
- " واقفاً في زاوية الحجرة ! "
- " بالفعل ! إلى الزاويةِ إذًا ! وعندما أفرغ من عقابِ أختِكَ سأعود إلى غرفتِك لأضعكَ في السرير "
قام ( بدر) مخجلاً ليتوجّه إلى الزاوية فطلبَتْ منه أمّه أن يقف أمامَها قبل أن يذهب إلى زاويتِه , ففعل , ثم سألتْه :
- " لماذا تضع يديك أمامَك ولا تضعُهما إلى جانبَيْكَ ؟ "
أجاب المراهقُ العريانُ في خجلٍ :
- " لأسبابٍ منطقيّة ! "
- " هل تريدني أن أقْحِمَ فرويد في الموضوع الآن؟ "
- " لا ! أرجوكِ ! "
- " حسناً , ما الذي ستفعله عندما أغادر الغرفةَ ؟ "
- " سأقف في الزاوية وقد قابلْتُها وعقدْتُ يديّ خلفَ رأسي "
- " ولدٌ مطيعٌ , وما الذي لن تصنعه عندما أغادر الغرفة ولكنّك تتمنى أن تصنعه ؟ "
- " أمّي !! "
- " إلى زاويتِكَ إذًا ! "
تحرّك ( بدر ) حتى استقرّ في زاويتِه , وظلَّتْ ( بهية ) تدرس آثارَ ما فعلَتْه بمؤخرتِه لبضعة ثوانٍ , ثم قامَتْ واقفةً وفتحتِ بابَ غرفة ابنِها لتخرجَ منها , ثمّ فتحَتْ بابَ غرفةِ ابنتِها لتدخلَ إليها , فوجدَتِ الغرفةُ _ الأكثر ترتيباً بكثيرٍ _قد استقرّ على طرفِ سريرِها ملابسُ ابنتِها التي كانَتْ ترتديها وقد رتِّبَتْ في أناقة , وإلى جوارِها _ في حيث يُفْتَرَضُ أن تَجْلِسَ لتعاقبَ ابنتَها _ كانتْ هناك منشفة ممدة , ولكنّ ابنتَها لم تكنْ في الغرفةِ .. وجاءَها صوتُ طرقِ البابِ فأمرَتِ الطارقَ أن يدخلَ , فدخلَتْ ابنتُها وقد أحاطَتْ نفسَها بمنشفة أخرى , ويبدو من بلل شعرِها أنها قد استحمَّتْ للتوّ , وقالَتْ في خجلٍ :
- " بسبب اليومِ القمريّ الذي نحن فيه ... فقد استحمَمْتُ .. ووضعْتُ هذه المنشفة لتجعليها في حجرك حتى لا .... "
قاطعَتِ الأم الروايةَ الحيِيّة لتقول في تدليلٍ :
- " أووه يا صغيرتي . ثمّ تلومينني على أنني لم أعاقبْكِ فيما سبقَ مثلَ أخيكِ ! إنّك ملاكٌ !"
كانَ خجلُ ابنتِها الظاهر في احمرار وجنتيها وتحديقِها في الأرض فوق قدرة الأمّ على التحمّل , فدنَتْ منها واحتضنَتْها وقبّلَتْ خدّها مراراً . ثم قالتْ ( بهيّة ) :
- " ما رأيكِ في أن تعديني بصدقٍ أنّك لن تعودي لإخفاء شيءٍ عنّي وأنّك ستكفّين عن الاستجابة لتحدّياتِ أخيكِ وتشكيكاتِه ... وسأتخلى أنا عن فكرةِ عقابِكِ كما أعاقبُ أخاكِ ؟ "
نظرَتْ إليها ( سوسن ) في خجلٍ , كأنّها تحاول حمْلَ نفسِها على قولِ شيءٍ , ولكنّها لا تستطيع قولَه .. فتذكَّرَتْ ( بهيّة ) ما كانتْ تشعر به وهي في مثلِ سنِّها , فقالَتْ :
- " ولكنْ إنْ كنْتِ تفتقدين إلى وجود الحزْمِ في حياتكِ , وتريدين مني أن أكون مصدرَ الحزْم كما أنني مصدرُ الحنان , فعلى الرحب والسعة .. "
هزّتِ المراهقةُ رأسَها في لهفةٍ , ولا يزال بصرُها معلَّقًا بالأرض , فحلّتْ أمُّها منشفتَها وتركتْها تهوي على الأرضِ , ثم سارَتْ بابنتِها الخَجْلى العارية إلى السرير فجلسَتْ عليه ووضعَتِ المنشفةَ في حجرِها ثم جعلَتِ ابنتَها في نفسِ الموضع الذي كان فيه ابنُها قبل دقائق , ولمّا استقرّ بها المجلسُ , قالَتْ في حزْمٍ مفتعَلٍ :
- " هذه أوّل مرةٍ أعاقبكِ فيها , وأرى أن الذنب ليس بهذا العِظَمِ , ولهذا سأكتفي بيدي هذه المرّة . ولكنْ في المرّاتِ القادمة توقّعي أن تكون يدي مستعينةً بفرشاة الشعر وليستْ منفردةً . هل هذا واضح يا صغيرة ؟ "
- " نعمْ يا أميمتي ! "
- " حسناً إذن ! "
لم تكنِ الضرباتُ موجعاتٍ إلى هذا الحدّ , ولكن ( سوسن ) لم يكنْ لها سابقةٌ في التعرض للعقاب على يد أمّها ولا على يدِ أبيها قبلَ وفاتِه , ولذا فقد كانَتْ تلك الصفعاتُ المتسارعاتُ سببًا في أشدّ ألمٍ مرَّتْ به في حياتِها , ولم يستغرقِ الأمرُ طويلاً حتى ارتفع صوتُ بكائها مقروناً بتعهداتِها بأن تكون " فتاةً صغيرةً لطيفةً مطيعةً , تسمع الكلام " , ووصلَ صوتُها إلى أخيها في زاويتِه , فأدار عينيه في محجرَيهما في سخريةٍ !
ورأتِ الأمّ احمرار ردفِها وسمعَتْ صوتَ بكائها فقرَّرَتْ أنّ ابنتَها قد نالتْ كفايتَها , وكفّتْ عن ستْهِها , وبدأتْ في التربيتِ على مؤخرتِها وظهرِها حتى تهدأ , ثم استدعَتِ الأمّ سؤالَ الجدّ الذي سأله للأم والخالةِ قبل ثلاثين سنة وهما في موضع مشابهٍ لموضع الابنةِ , فقالَتْ :
- " هل تعلمْنا درْسَنا ؟ "
فأجابَتْ صغيرتُها المدلّلة من بين شهقاتِها بالبكاء :
- " نعم , يا أميمتي ! ولن ترَيْ مني بعد ذلك إلا ما يرضيكِ .. "
فأنهضَتْها ( بهيةُ ), وعانقَتْها, وقبّلَتْ خدّيها, ثم وضعتْها عريانةً في سريرِها لتنامَ , ثم تذكّرَتْ شيئاً , فقالَتْ :
- " ستحتاجين واحدةً أخرى . أليس كذلك ؟ "
فأشارتْ ابنتُها في حياءٍ إلى الجانب القصيّ من السرير , فرأَتْ أمُّها أنّها قد أعدَّتْ ذلك أيضاً , وقرَّرَتْ أنه قد مضى وقتٌ طويلٌ منذ أن ألبسَتِ ابنتَها أو ابنَها واحدةً من هذه الأشياء , فأمرَتْ صغيرَتها أن ترفع رجليها في الهواء , فازداد حياءُ صغيرتِها ... وعندما فرغَتْ أمّها من مهمّتِها كان منظرُ ابنة الثامنة عشرة يذوب له قلْبُ أقسى الناس , فمالَتِ الأمُّ على جبين طفلتِها وقبّلتْه , وقالت :
- " تصبحين على خير , يا حلوة ! "
- " تصبحين على خيرٍ , يا أميمتي ! "
ثم انصرفَتِ الأم للمراهق الآخر الذي لا يزال منتظراً في زاويتِه , فأخرجتْه منها ووضعَتْه في سريرِه وسألَتْه مثلَ سؤالِها لأخته فأجاب مثل إجابتِها ...
وخرجَتْ من غرفتِه وهي لا تجهل ما سيفعله بمجرد خروجها , ولكنها كانتْ تجهل تماماً أنّ " طفلتَها وصغيرتَها " قد صنَعَتْ نفس ذلك الفعل _ مما لا علاقة له بأفعالِ الأطفال ولا الصغيراتِ _ بمجرّد خروجِ أمّها من غرفتِها وتوجّهها لغرفة أخيها !
وكلاهما لم يكنْ يخطر لهما ببالٍ أن أمّهما هي الأخرى قد لجأَتْ إلى غرفتِها لتمارس نفس الفعل , وكأنّ الأسرة كلّها قد تملّكها دافعٌ واحدٌ وإرادةٌ واحدةٌ فهي منشغلة في ممارسة فعلٍ واحدٍ تلْهِبُهُ شعلةُ ذكرياتٍ واحدةٍ لحادثةٍ حدثَتْ قبل دقائق وتضمنَتْ يداً وفرشاةَ شعرٍ ومؤخرتَين !
**************
3- أمَا وقد وقع !
_____________________________
طلع الصباحُ ..
وأرادَ المنبّه أن ينبّه الدكتورة إلى ميعاد ذهابِها لعملِها , ولكنّه تذكّر أن اليوم هو يوم الإجازة فكفّ عن الرنين بمجرّد أن بدأ فيه , أو للدقة فإنه لم يتذكّر وحدَه , ولكنْ ما دفعه للتذكر كان تنبيهاً بسيطاً من إصبع الدكتورة الوسنانة على زرٍّ فيه !
ومرّ وقتٌ طويلٌ حتى ارتفع صوتٌ آخرُ في الغرفةِ ؛ طرقاتٌ على البابِ الذي نادراً ما يُطْرَقُ .. لأن صاحبة الغرفة تستيقظ في المعتاد قبل صغيرَيها لا بعدَهما ...
كادَتْ تجيبُ الطارقَ وتطلب منه أن يدخل ؛ لكنّها تذكّرَتْ في اللحظة الأخيرة أنها لا ترتدي شيئًا بسبب نومها البارحة مرهقةً بعد صولاتٍ وجولاتٍ لمْ تحتج فيها إلى ارتداء شيءٍ ... ولذا فقدْ عدّلَتْ إجابتَها للطارق من الدخول إلى قولِها :
- " لحظة واحدة ! "
نَهَضَتْ مسرعةً من السرير , وارتدَتْ روبَها ثم فتحَتِ البابَ بنفسِها , فوجدَتْ ابنَها وابنتَها معاً , وهما يحملان أطباقاً فيها ما يبدو أنه إفطار , وابتسامتهما تغطي وجهيهما , سألتِ الأمّ في دهشة غير مصطنعة :
- " هذا لي ؟ "
أجاب ( بدر ) في حماسٍ :
- " كنوعٍ من الشكر على الجهد المبذولِ في تربيتِنا ورعايتِنا وحدَكِ بلا شريكٍ طيلةَ هذه السنين ! "
أضافَتْ أختُه التي لم تفطِنْ إلى التجريد الذي ذهب إليه أخوها :
- " وبصورةٍ خاصّةٍ على ما قمتِ به البارحةَ مِن ... "
جذب أخوها كمَّ قميصِها لِينبّهها إلى أنّ ما فعلَتْه أمّهما البارحة لا يفترض أن ينتهي بشكرِهما لها , على الأقلّ ليس بهذه الفجاجة !, ولم تغفلْ أمُّه عن فعلِه , فابتسَمَتْ , بينما ( سوسن ) لا تزال لا تفهم ما يريده أخوها , وقالتِ الأمّ :
- " وماذا عنكما , هل أفطرْتُما ؟ "
أجابَتْ ( سوسن ) :
- " لا تشغلي بالكِ بنا ؛ نحن لم نَعُدْ طفْلَين ... لقد صنعْنا إفطارَنا قبل ساعةٍ من الآن ! "
- " من رآكما البارحة لشكّ في صحّة هذا النفي شكّاً كبيراً ! "
ثمّ نظرَتْ إلى ابنِها وأضافَتْ :
- " هل ساعدْتَ أختَك في إعداد هذا , أم تركْتَها تعدّ كل الطعامِ وحدَها ؟ "
أجابَتِ الأختُ مدافعةً عن أخيها :
- " لقد سخّن الخبزَ , وعَصَر العصير ! "
فكرّر أخوها :
- " لقد سخّنْتُ الخبزَ , وعصرْتُ العصيرَ ؛ لو كنْتُ أحْسنُ صنع شيءٍ آخرَ لفعلْتُه ! "
ابتسَمَتْ ( بهيّة ) , ثمّ ذَهَبَ ذهْنُها إلى شيءٍ آخرَ :
- " ذكرْتِ أنّكما أفطرْتما قبل ساعةٍ .. كم الساعة الآن ؟ "
- " العاشرة ! "
حدَّقَتْ الأم في ذهولٍ ؛ إنها لم تنم حتى العاشرة منذ سنين !
فأضافَتْ ابنتُها :
- " في الواقع لقد كنا نريد أن نجعله إفطاراً إلى السرير , كما في الأفلام الأجنبية , ولكنّ ( بدر ) أقنعني ألا ندخلَ حتى نستأذن ! "
نظرَتْ ( بهيّة ) إلى ابنتِها , وعقلُها يصوِّر لها ما كان ليحدث لو دخلا بدون استئذانٍ , ثم قالَتْ :
- " جيّدٌ أنكِ استمعْتِ إلى نصيحةَ أخيكِ ؛ على أيّة حالٍ : ما دمْتما قد أفطرْتما , وهذا الطعامُ يبدو شهيًّا , فسأستحوذ عليه "
وتلقَّتِ الأطباقَ من ( بدر ) و ( سوسن ) , ونقلَتْها إلى غرفتِها , ثمّ أغلقَتِ البابَ وهي تبتسم , وكأنها تمنعهما من مشاركتِها في إفطارِها !
ووقف المراهقان أمام باب غرفةِ أمِّهما المغلق مبتسمَيْن , ثمّ قال ( بدر ) لأختِه في خبثٍ :
- " أرأيْتِ : لقد أحْسَنْتُ عندما أقنعْتُكِ بأن نستأذن ! "
أجابَتْ الأختُ :
- " لا زلْتُ لا أدري سببَ ذلك ؛ لطالما كنْتُ أدخل غرفة أمي بدون استئذان ! "
- " ولكنّ هذا اليوم بالذات مختلفٌ ! "
- " مختلفٌ في ماذا ؟ "
- " ما الذي فعلْتِه البارحةَ بعد أن فرغَتْ أمّكِ من عقابكِ ؟ "
كان اندفاع الدم لوجنتيها إجابةً كافيةً , فأكمل ( بدر ) :
- " وكذلك الحال معي , وإن كان حدسي صادقاً , ونادراً ما يخيبُ , فإن أمَّنا كانتْ هي الأخرى تقوم بنفس الشيءِ ! "
لم تجبْ ( سوسنُ ) بشيءٍ , فجاءها صوتُ أخيها العابث :
- " هل تريدين أن تشتركي في مسرحية أخرى نستعين بها لإثباتِ صحّة ما ذهبْتُ إليه ؟ "
ردَّتْ ( سوسن ) :
- " لقد حذّرتني أمي من ألاعيبكَ هذه ! "
- " حسناً , لا داعي لأن تفعلي , ولكنّكِ لن تعرفي _ يقيناً _ ما إذا كانتْ أمّكِ تتوق لأن تعقابَنا كما نتوق لعقابِها لنا حتى توافقي على الاشتراك في المسرحية ! "
كان الفضولُ _ على الذي يظهر _ أكبرَ من أن تدفعه المراهقة , فقالَتْ في صوتٍ مستسلمٍ :
- " هاتِ تفاصيلَ المسرحية ! "
- " حسناً . إنّ الأمر بسيطٌ ؛ كلّ ما علينا فعلُه هو أن نكْتُبَ قصَّةً حمقاءَ ونضمنها عقاباً شبيهاً بعقابِنا الذي نتعرض له , ولكننا نجعلُ من يجري العقابَ امرأةٌ غريبةٌ لا تربطها بالمعاقَبِ صلةُ قرابةٍ , ثم نصف استمتاعَها الجنسيّ بعمليّة المعاقَبَة .. ثم تذهبين بهذه القصّة _ التي تدّعين أنكِ وجدْتِها " صدفةً " في حاجيّاتي _ إلى أمِّك , وأنّكِ قرأتِها من باب الفضول وراعكِ ما وجدْتِه فيها ؛ فتضطر أمّكِ أن تقرأها , ثم تراقبين أنتِ ردَّ فعلِها أثناء القراءة وتستنتجين منه حقيقةَ أمْرِها ... "
- " تبدو خطّةً جيّدةً .. متى سنكْتُبُ هذه القصّة ؟ "
- " لماذا تتوقعَيْنَ أني لم أكتبْها بالفعلِ ! "
انفتح بابُ غرفةِ أمِّهما فجأة وجاءَ صوتُها هادراً , ولكنّ حدس ( بدر ) _الذي نادراً ما يخطئ _ أخبره أن هذا الغضبَ مصطنعٌ :
- " حسناً , كلاكما قد تجاوزْتما كلَّ خطٍّ أحمرَ ممكنٍ , وستتعرضان لأشد عقوبةٍ .... ( بدر ) ! اذهبْ وائتني بتلك القصة التي ذكرْتَها حتى أرى مقدار الدناءة التي ذهب إليها فكرُكِ , وأنت يا متظاهرةً بالبراءة , ائتيني بفرشاة شعركِ , فقد انكشفَ لي تمثيلُكِ وما وراءه من مشاغبة ... أتتهمانني بالتلذذ بعقابكما ؟! إلى هذا الحد ؟! "
حاول ( بدر ) أن يمنع نفسَه من هذا السؤال العابث, ولكنّه أخفق , وسأل _وكأنّه هرّ يحاول اختلاس قطعة سمكٍ_ :
- " هل لنا أن نُقْحِمَ فرويد في الموضوع ؟ "
وفي ركْنِ فمِ أمّه ارتعشَ شبحُ ابتسامةٍ لا يكاد يُرى بالعين المجرّدة , ولكنّ عيناً خبيرةً كعين ( بدر ) كانتْ قادرةً على التقاطه , وكان ذلك كافياً لإثباتِ صحة شكوك المراهق , وأنه بالفعل قد وقع على سرّ أمِّه ... وجاهدَتْ ( بهيّة ) لتجيبَ في غلظة :
- " عندما أفرغ من مؤخرتِك ستنسى من هو فرويد هذا , والآن اذهبْ وائتِ بالقصّة ! "
جاء صوتُ المراهق مشبعاً بالشعور بالنصرِ :
- " سؤالٌ أخيرٌ ! "
أجابَتْ الأم في قلقٍ , وهي تحاول أن تدرك سبب انتشائه :
- " ماذا ؟ "
- " لماذا تعتقدين أننا خضنا هذا الحوار بصوتٍ مرتفع على بعد سنتيمتراتٍ من باب غرفتِك , ولم نرجئه حتى نذهب إلى غرفة أحدِنا أو إلى أبعد مكان ممكن من غرفتِك ؟ "
أسْقِطَ في يدي الأم , ونظرَتْ جهةَ ابنتِها , فرأتْ في عينيها شبح اعتذارٍ على المشاركة في مسرحية ثانية لخداع أمِّها في أقل من أربع وعشرين ساعة , وقالَتْ الابنة :
- " آسفة يا أميمتي ! ولكنّ فضولَ المعرفة كان أقوى مني ! "
- " متى رتبْتما كلّ هذا ؟ "
أجاب ( بدر ) :
- " عندما استيقظْنا في نفس الوقتِ تقريباً , وتقابلْنا صدفةً أمام باب الحمّام وكلانا يحمل ثياباً جديدة ليرتديَها بعد أن يغتسل ؛ لقد جرّ هذا حواراً متوقعاً حول السبب المفاجئ الذي دفع كلينا للاغتسال في نفس الصباحِ , وما إذا كان له علاقة بما تعرضنا جميعاً له في الليلة الماضية , وبعد مدافعة طويلة اعترفَتْ ( سوسن ) بسرِّها , فأردْتُ طمأنتَها إلى أن جميع من في الشقة يشاركونَها هذا السرّ بما فيهم من أجْرَتِ العقابَ ... ثم جرّ شيءٌ شيئًا حتى اتفَقْنا على هذه المسرحية الهاملتية لكشفِ سرّ الفرد المتبقي الذي لم يعترف بسرّه في هذا البيت "
نظرَتْ الأمّ إلى ابنِها , وقالَتْ في استياءٍ ممزوجٍ بالإعجابِ فجاء صوتُها يتبرّأ بعضُه من بعضٍ :
- " أنت شيطان عبقريّ ! "
- " بعضُ ما عندكم ! "
- " ما الذي ذكرْناه حول هذه الردود المتذاكية ؟ "
قال المراهق وهو يحاول إخفاءَ لهفتِه :
- " أنها موجِبةٌ للعقابِ ! "
فأجابَتِ الأمّ في خبْثٍ :
- " كان هذا قبل أن نتبادل المصارحةَ بأسرارِنا , أمّا الآن فالأمر يختلف : يوميًّا سيكون هناك عقابٌ ثابتٌ لكلٍّ منكما بدون أن تضطرا لصنع شيءٍ لتستحقاه , ولكنْ إن كانَ في اليوم السابق له إجاباتٌ متذاكية أو عصيانٌ لأوامر أو تقصيرٌ في الدراسة , فإن هذا العقاب اليومي سيتمّ إلغاؤه بصورة تلقائية , وإن كان الذنب ضخماً فربّما نلغيه لمدة يومين أو ثلاثة أو أكثر ... هذا أنجع في تأديبكما على ما أعتقد ... وبناءً عليه : عدْ يا ( بدرُ ) إلى غرفتِك فأنت محرومٌ من العقاب بسبب هذا الرد المتذاكي , وأنتِ يا ( سوسن ) بإمكانكِ أن تنتظريني في غرفتكِ عاريةً حتى أفرغ من إفطاري ثم أفعل بكِ ما تحبينه "
نظرَتِ الحسناءُ إلى توأمِها فوجدَتْه يغلي استياءً , فقالَتْ وهي تجاهد الضحكَ :
- " شكراً يا أميمتي ! هل لي أن أشفع لديكِ في أخي حتى لا تحرميه من العقابِ ؟ "
- " الشفاعة مردودة ! وإن لم يتحرّكْ في هذه اللحظة إلى غرفتِه ويفكّر فيما تسبب في حرمانه من عقابه ويندم عليه , فسيُحْرَم من عقاب الغد كذلك ! "
كانَتْ هذه إشارةُ الانطلاق لـ ( بدر) ليهرع إلى غرفتِه ويغلق بابَها خلفه ؛ على الأقل إن فاتَه عقابُ اليومِ فلا أقلَّ من أن يضمن عقابَ الغدِ !
أما ( سوسن ) فقد سارَتْ بخطواتٍ منتشية إلى غرفتِها ، وأغلقَتْ بابَها ، ثم تعرَّتْ وهي تصوّر لنفسِها ما يوشك أن يتعرض له جلدها البض على يد أمِّها بعد دقائق ... فلم تتمالك نفسَها من أن تعضّ على شفتها في لهفة وتشوق ...
أما ( بهية ) فكانَتْ لذّتُها بتناول الإفطار الشهيّ الذي صنعه ثمرتا بطنِها لذّةً مضاعفةً , لم يكنْ يقدح فيها إلا أن العقاب القادم مقتصر على إحدى الثمرتَين دون الأخرى , ولكنّها مضطرة لحمل نفسِها على تأجيل عقاب ابنِها اليوميّ حتى الغدِ , لكيلا يفسده التدليل , ويتعلم درسَه ؛ هذا هو ما يطلق عليه الحب القاسي ؛ أن تجبر نفسَك على خلافِ ما يريده مَنْ تحبّه وما تريده أنت أيضاً ؛ حتى يتعلم المحبوب درسَه , ولا يُفْسِده التدليل ؛ وهي أمّ صالحة مستعدة لمقاساة صعوبات الحب القاسي إن كان فيه مصلحةُ وليدَيها !
**********
طرقاتٌ على البابِ كأنّ صاحبَها قد تعمّد أن يأتي وقعها متوافقًا مع حركة يد الضابط الصغير صعوداً ونزولاً ...
وما إن طرقَتِ الطرقاتُ مسمعَ ( سالم ) حتى كفّ عما يصنعه , واعتراه الرعبُ , وهو يحاول أن يدس رجليه في بنطال منامَتِه , بينما صوتُ أبيه يأتيه من خارج الغرفة :
- " لماذا هذا البابُ مغلقٌ ؟ "
لم يدْرِ ( سالم ) بم يجيبُ , ولكنّ عقلَه تولّى التفكيرَ في شيءٍ بالنيابة عنه ثم أجاب بالنيابة عنه أيضاً :
- " لأنني خفْتُ أن يفْتَحَه أحدُ الخدم كما اعتادوا , فيقابلُهم ما لم يعتادوا رؤيتَه ! "
فكّر ( سالم ) فيما أجاب به تلقائيًّا قبلَ قليلٍ , فوجد الجوابُ أحوج للتفسير من الفعل نفسِه , ثم فتح البابَ فطالعَتْه عينا والدِه المتسائلتين وسأله , وهو يلج إلى الغرفة :
- " وما الذي كنْتَ تصنعه ؟ "
طلبَ ( سالم ) من عقلِه أن يتولى الإجابةَ ما دام هو من ورّطه في هذه الورطة , فقال لسانُه من عندِه :
- " لأنني نظرْتُ في المرآة إلى آثار عقابِ ليلة البارحة فراعني أنها لا تزال جليّة واضحةً , فأردْتُ أن أزيلَها بفركٍ أو بتهويةٍ أو بنضْحٍ بماءٍ , فخفْتُ أن يفتحَ أحدٌ الباب فيرى ذلك ! "
فكّر ( سالم ) فيما قاله , فوجده مقبولاً إلى حدّ بعيدٍ ... محرجٌ بعض الشيءِ , ولكنّه مقبولٌ ... قال والده في تعاطفٍ :
- " لقد كنْتُ أظنّك منغمساً في شيءٍ آخرَ ! على أية حالٍ : ما ذكرْتُه في الواقع يذكّرني بما قاله اللورد ( بليذن ) وكنْتُ أنوي أن أفعلَه ولكنّه بدا لي أمراً شديدَ الغرابة فعدلْتُ عن فعْلِه , ولكنْ بالنظر إلى ما ذكرْتَه للتوّ , فأنا أرى أنه مناسبٌ أشد المناسبة ... انتظرْني قليلاً حتى أذهب لغرفتي وأعود ! "
لم يكن ( سالم ) يدري أيَّ مصيبةٍ قادمةٍ ستجلبها عليه نصائح اللورد ( بليذن ) , ولكنّه تذكّر ما فعله به أبوه والبوّابُ ليلةَ البارحة , ثم حضر إلى ذهنِه ما قاله أبوه قبل قليلٍ عن " شدة غرابة" هذه النصيحة الجديدة للورد ( بليذن ) , فوجد الذعر يسيطر عليه ؛ إن كان ما حدث البارحة أقلّ غرابةً مما يوشك أن يحدث , فما الذي يوشك أن يحدث ؟!
لم يستغرقْ ذهابُ ( سمير ) إلى غرفتِه وعودتُه كثيراً من الوقْتِ فقد دخل بعد ثوانٍ وفي يده علبةٌ غريبةُ الشكل تبدو كأنها تحوي مرهماً من مراهم الجلد , ثم أغلق البابَ خلفَه وتوجّه إلى السرير الذي شهد ملحمةَ البارحةِ , وجلس على حافتِه , وأشار إلى ابنِه ليقتربَ , ففعل , ثم أشار إليه ليتمدد في حجره , فبدا الخوفُ في عينيه , فقال الأبُ :
- " إن كنْتَ تعتقد أن ما سأفعله مثيرٌ للخوف فأنت مخطئ , ولكن اعترافاً بالحق فإنه مثير للخجل , على الأقلّ في حقك أنت ! "
كان ( سالم ) لا يزال يجهل ما سيحدث , ولكنه أطاع أمر أبيه , واستلقى على فخذيه وليس عليه سوى بنطال المنامة , الذي سرعان ما أنزلتْه يد أبيه إلى كعبيه كاشفاً عن كلِّ ما تحتَه , وقال الأبُ وهو يدرس تفاصيل المشهد :
- " لقد زالَتْ معظمُ آثار العقاب , ما الذي كنْتَ تشتكي منه بالضبطِ ؟ "
لم يكنْ ( سالم ) قد درس هذه الآثارَ أصلاً ؛ لقد كان العذر كلّه تهرّباً من الحقيقة المخجلة , فقال في توجّس :
- " لقد بدا لي في المرآة أنها لا تزال بارزةً , لعلّ المرآة ضخّمَتْ من هذه الآثار ! "
قال أبوه في سخرية :
- " أو لعلّها مرآة سحرية تريك ما سيحدث وليس ما يحدث , على أية حالٍ : من الآن فصاعداً عندما أعاقبكَ فسأطبق نصائح اللورد بحرفيّتها , وهذه النصائح تشمل ما يسميه هو برعاية ما بعد العقاب , كما ترى فهذا الذي في يدي هو مرهم مخصص للدهن على مؤخرات الأطفال الأشقياء بعد الفراغ من عقوبتهم حتى لا يترك العقاب آثاراً تدوم لفترة طويلة ؛ وهو ما كنْتَ تشتكي منه , على الرغم من أنني لا أرى لشكواك محلاً من الإعراب ! "
كاد ( سالم ) يذوب خجلاً , وقد أدرك ما ينوي والدُه صنْعَه , وسمع صوتَ فتح غطاء العلبة , ثم استقرّتِ العلبةُ على ظهره بعد أن غمس أبوه إصبعه فيها ونقل ما علق بإصبعه من المرهم إلى ردفه الأيمن ثم غمس إصبعه مرةً أخرى وكرر الفعلَ مع ردفه الأيسر ثم أغلق العبوة ووضعها إلى جانبه على السرير , وبدأ في نشر المرهم وتدليك ما نُشِرَ المرهمُ ليغطيه , فازداد خجلُ ( سالم ) , وهو يدافع رغبتَه في أن يجعل قماش بنطال أبيه نائباً عن يده فيما كانتْ تفعله عندما طرق أبوه البابَ , وعادَتْ مخاوفُه من أن يفتضح أمرُه لتشغل عقلَه , ولم يكن أبوه أفضلَ حالاً , فقد كان يعاني مما يعاني منه ابنُه , وقد بدا له أنّ علة " تذكر المرحومة " هذه لا يمكن أن تطّرد كل هذا الاطّراد مع رؤية ردفَي ابنِ المرحومة !
وانشغل الأب وابنُه لدقائق _بدَتْ كدهورٍ_ في ضمان التطبيق الحرفي لنصائح اللورد , فلما بدا أن المرهم قد انتقل إلى كلّ بقعة ممكنة من مؤخرة ( سالم ) , وأن الأبَ لو استمرّ في تدليك مؤخرة الابن لمزيدٍ من الوقتِ لتحوّل إلى دلّاكٍ في حمام , تجرّأ الأبُ , وسأل :
- " هل تعتقد أنّ علينا _ نظراً لنجاعة هذا العقاب كما أشار اللورد ( بليذن ) _ أن نضمن وجود من يُوقِعُه عليك في كل لحظة تحتاج فيها إليه ؟ فأنت تعلم أنني كثيرُ الأسفارِ , ونادراً ما أكون في القصر , وأنت بحاجة كـ " غلامٍ " شقيّ إلى من يتولّى عقابَك حتى لا تنسى نفسَك وتظنّ أنك كبرْتَ على التقويم والتهذيب ! "
- " أعتقد أنّ بإمكانِكَ أن توكّل بي من يدوّن عليّ أخطائي , ثم تعاقِبُني عليها جملةً واحدةً عندما تعود من سفرِك ! "
- " هذا يتعارض مع نصيحة اللورد بتقريب زمن العقوبة من زمن الذنب , وبالنظر إلى أن البوّابَ قد عاقبَك بالفعلِ البارحةَ , وأبدى كفاءةً بالغةً _ وهو الذي لم يعتمد على غيرِ يده , فما بالك لو استعمل فرشاة شعرٍ أو حزامٍ ؟ _ في عقابِك , فأنا أرى أنه من المناسب أن أوكّله بإجراء العقاب عندما أغيبُ عن المنزلِ . ما رأيُك في هذا ؟ "
كان في انقباض ردفي ( سالم ) بمجرّد سماعِه الاقتراح ما يشير إلى صحّة رأيِ ما ذهب إليه الأبُ , وأنّ البوّاب كفيلٌ بإنزال الابن المشاغب منزلتَه التي يستحقّها , فقال الأب في صرامةٍ :
- " أعتقد أنّه لا معنى لطلب موافقتِكَ ؛ ما دمْتُ أنا أرى أنّه جديرٌ بتحمّل هذه المسئولية فهو كذلك , بالمناسبة : بما إنني مضطر للسفر غدًا , فستشهد هذه الليلةُ أولى جلساتِ عقابِك التي يتولّاها البوّابُ بالكامل ؛ وسأكون شاهداً عليها لأضمنَ أنك ستعامله بما يجب من الاحترام , وأنه لن يتوانى في بلوغ الأثر المطلوب في عقابِك "
كان "بلوغُ البوّابِ للأثر المطلوب" قد تحقق بمجرد تخيّل الأب لمشهد ابنِه وحيداً في غرفتِه وليس عندَه غير البوّابِ , وقد عرّاه البوّابُ وقوّسه على فخديه ، وأهوى بيده على مؤخرتِه ليعاقبَه , وكانتْ نفسُ هذه الصورة المتخيلة تلحّ على عقل الابنِ كذلك , وتكاد تدفعه إلى الانفجار والافتضاح أمامَ أبيه , وهو يكبح جماحَ نفسه بمشقة وجهد جهيد , وإن كان لا يشكّ أن تحوّل تلك الصورة المتخيلة إلى حقيقة _وهو ما يبدو أنه سيحدث قريباً _ سيؤدي _ مهما حاول أن يدافع نفسَه _ إلى الانفجار في حضْنِ معاقبِه, وضياع كلّ ما تبقى له من هيبةٍ , إن كان قد تبقى له منها شيءٌ !
كانَتْ هذه الأفكار تدفع الأبَ والابنَ إلى ما لا يصحّ أن يطلع أبٌ على ابنه وهو يصنعه ولا العكس , فقرر الأب أن يخلو بنفسِه في غرفتِه ليقضي حاجتَها , وهو يعلم أن ابنَه سيفعل نفسَ الشيءِ , فقال في صوتٍ متهدّجٍ :
- " نتقابل في جلسة عقابِ الليلة إذاً ! "
قال الابن في صوتٍ لا يقل تهدجاً :
- " حسناً ! "
ثم قام الابن من اضجاعه في حضن أبيه , وقام الأب كذلك , وغادرالأبُ الغرفةَ وأغلقَ بابَها وراءَه ثم هرع إلى غرفتِه ... فلمّا أغلقَ بابَها كانتْ تلك إشارةُ البدء ليغوص عقلُه غوصاً في صور متخيَّلاتٍ مستعذبَاتٍ تشمل بوّاباً وابنَ باشا وقد تبادلا المكانة والحقوق والواجباتِ , ولم يملكِ الباشا نفسَه فبدأ في حل بنطاله والانشغال بما كان ابنُه يصنعه عندما طرق بابَه قبل قليلٍ ...
أمّا الابنُ فكان قد سبق أباه _ بحكم قرب خلوّه بنفسِه _ إلى التخيّل والتصوّر ؛ صوّرَتْ له نفسُه مشهدَه البارحة وقد صار فريسةً وصار البوابُ صياداً , والصياد مولعٌ أيَّ ولعٍ بفريستِه .
ثم تصوّر ما سيقع له هذه الليلة _ على مشهدٍ من أبيه _ على يد ذلك الصياد الذي لا يبالي أنّ وليّ نعمتَه يراه وهو يكاد ينهش لحمَ ابنِه نهشاً من شدة ولعه به .
ثمّ تصوّر ما سيحدث له على يد الصيّاد عندما يسافر أبوه وتخلو له الساحة ليصنع به كلّ ما يحبّه ؛ هل سيقتصر حينَها على عقاب اللورد ( بليذن) فقط ؟ أم سيزيد "عقوباتٍ" أخرى من عنده ؟...
ولم يمضِ كثيرٌ حتى كان الأب والابن جميعاً قد بلغا غايتَهما وفترَتْ يداهما عما كانتا تصنعانه , واستلقيا _ كلٌّ في سريره _ وهما يلهثان لهاث من قضى اليومَ في زرْعِ أرضٍ وحرْثِها ...
وغير بعيدٍ عن سرير الباشا وسرير ابن الباشا , كان مَنْ يُوشِكُ أن يصيرَ المعاقِبَ الرسميّ لابن الباشا مشغولاً هو الآخر بتمني أن تتاح له الفرصةُ ليكرِّرَ بابن الباشا ما صنعه به أمام أبيه ؛ غير عالمٍ بما تقرّر بالفعل بين الباشا وابنِه ... ولم يكنْ يتصوّر أن تلك الأمسية ستحمل معها تحقُّقَ كلّ أمانيه وزيادةً ... ولم يكنْ يتصوّر أنه على مدار سنين قادمة ستكون مؤخرة ابن الباشا _بأمر الباشا نفسِه _ متاحةً على حجره في أيّ وقتٍ يرى فيه أن صاحبها قد فعل ما يوجب العقابَ ...
بعد تلك الأمسيّة بأيامٍ سيفكّر البواب في أنّ هذه الدنيا لم تكنِ _يومًا _ مكاناً سعيداً لِمَنْ وُلِد في مثل ظروفه, ولكنّ هذه الدنيا قد اعتذرَتْ وأخلصَتْ في الاعتذارِ بهذه الهدية الضخمة التي رمَتْها في حجره _ حرفيًّا _ , وهو راضٍ عن الدنيا وراضٍ عن هديّتِها , ومنفّسٌ عما بقي في نفسِه من سخطٍ على هذه الدنيا في صورة صفعاتٍ تهوي على تلك الهديّة الحسناءِ , فتشفي تلك الصفعاتُ نارَ صدرِه وتوقد نارًا أخرى في مكانٍ آخر من جسده في الوقت نفسِه !
**********
- " ما الذي حدث للبنتَينِ يا ( سالم ) ؟! ما الذي صنعْتَه بابنتيّ ؟! هذا ليس معسكرًا لأمن الدولة , هذا بيتٌ تسكنه حمامتان لا تحتملان الصراخ بله الضرب ! "
نظر ( سالم ) إلى زوجتِه الباكية , وهي تحاول تجاوزَ زوجِها لتدخل إلى غرفةِ ابنتيها لتطمئنّ عليهما , فقال ( سالم ) وهو يحاول ألا يغضب مما تتهمه به :
- " إن الحمامتَينِ هما من طلبتا أن أفعل بهما ما فعلْتُه , هذا لم يكن عقاباً لقد كان أقربَ إلى الثوابِ ! "
نظرَتْ له زوجتُه في ذهولٍ , وقالَتْ :
- " هلْ جنِنْتَ : من الذي يرغبُ في مثل هذا ؟ لقد سمعْتُ بكاءَهما من وراءِ الباب , هذا بكاء من يتألم ولا يرغب في شيءٍ أكثر من انتهاء ما يسبّب ألمَه ! "
- " إن الأمر معقّد ؛ صدقيني أنا أعلم الناس بدوافع ابنتيّ , ولو دخلْتِ عليهما الآن , لوجدْتِ ما لا يسرّكِ ! "
- " سأجد ما لا يسرّني من آثار ضربِك وقسوتِك عليهما ؟ "
- " بل من آثار ما تصنعانه بنفسيهما في هذه اللحظة ؛ لماذا لا تعودين للإنصاتِ إلى ما يحدث في غرفتِهما فتسمعي بنفسك ؟ "
كانتْ الزوجة لا تزال في ذهولٍ مما يقوله زوجها , ولكنّها قرَّرَتْ أن تجيبه إلى طلبِه, وألصقَتْ أذنَها بالباب , فبلغَ مسمعَهَا صوتٌ لا شكّ في طبيعتِه , ولم تكدْ تصدّقُ أذنيها عندما تداخل ذلك الصوتُ مع صوتٍ آخر يحمل الدلالة نفسَها ؛ إن ابنتيها الصغيرتين البريئتين يقومان بأفعالٍ يصدر عنها مثلُ هذه الأصوات في حضرة بعضهما البعض ! بعد أقلّ من دقيقة من فراغ أبيهما من عقابِهما الموجِع ! ما هذه الأسرة غريبة الأطوار التي هي جزءٌ منها ؟!
ابتعدَتْ عن الباب , ونظرَتْ إلى زوجِها , وهي تطلبُ منه تفسيراً , فقال في هدوءٍ :
- " هل لي أن أسالَكِ شيئًا : هل عاقبَكِ والدُكِ أو والدتُكِ وأنت صغيرة ؟ "
- " لا ! لم يسبق لي أن عوقبْتُ بهذا المعنى الذي تشير إليه , لقد كان اعتراض أبي وأمي على ما أصنعه يأتي في صورة صراخٍ وسبّ وشتمٍ ! "
- " هل لنا أن نصحح ذلك إذاً ؟ "
نظرَتْ إليه زوجتُه في استغرابٍ , وقالَتْ :
- " تريد أن تعود بالزمن لتنهى أبي وأمي عن شتمي والصراخ في وجهي ؟ "
- " بل أريدُ أن أطْلِعَكِ على ما أثار دهشتَكِ من رغباتِ بنتَيْكِ , لعلك تتفهمين دوافعهَما ! لنفترضْ أنك ابنتي وأنني قد عدْتُ من عملي لأجد أمَّكِ تقابلني معدّدة ما فعلْتِه ومحرّضةً لي على ضمانِ أن تندمي على ما قمْتِ به ... "
قاطعَتْه زوجتُه :
- " هذا شعورٌ ممضٌّ , وإن لم أجرِّبْه "
- " بالضبط أنتِ لم تجرّبيه , ولذا فهو لم يرتبطْ لديكِ بكلّ ما يرتبط به عند مَنْ جرّبه ؛ هناك شيءٌ آخرُ غير الخوف وغير التوجس يخالط نفس المعاقَبِ في تلك اللحظة ؛ الشعورُ بأنّ هناك مَنْ يهتمّ به ويخاف أن يصدرَ عنه ما لا يليق , فهو يعاقبه حتى يحول دون حدوث ذلك ...الشعورُ بأنّ لحظة العقابِ هذه ستخورُ فيها كلّ دفاعاتِه وكلّ الحوائطِ التي بناها ليستَرَ أسرارَه وآمالَه ومخاوفَه عن أعينِ الناس ؛ سيكون عارياً أمام مَنْ يعاقبه .. يجيبُ صادقاً على أسئلتِه , ويتوسّل صادقاً أن يُغْفَرَ له , ويعبّر صادقاً عن امتنانه وتقديره لوجود معاقبِه في حياتِه ... الشعورُ أنّ ما يثقل صدرَه من أخطاء وتجاوزاتٍ قد عوقبَ عليه فلم يعد هناك معنىً لأن يحمل أخطاءَه وتجاوزاتِه على ظهره حتى ينقضّ ظهرُه ... هذا المعنى الذي يخامر نفس المعاقَبِ يزيد كثيراً على التهديد والألم والبكاء .. إنّه شيءٌ في أعماق النفسِ رسخ هناك من زمان البشر الأوّل من قبل أن تنشأ الضوابط والأعراف وتستقرّ التابوهات والمحظورات ! "
نظرَتِ الزوجة إلى زوجِها , ثم قالَتْ :
- " هذا يبدو شاعريًّا , ولكنّه لا يُحْدِثُ فيّ أيّ أثرٍ من أيّ نوعٍ ! "
قال الزوجُ في يأسٍ :
- " أعتقد أن الأمر في الجيناتِ أو شيءٌ من هذا القبيلِ , بعض الناس يرغبون في هذا الفعل أو ذاك وبعض الناس لا يرغبون فيهما ؛ ولكنّ الجميع لديه أسرارٌ ما يخشى إطلاعَ الآخرين عليها ؛ إن البشر قساةٌ عندما يخبّئون أسرارهم ويرمون مكشوفي الأسرار بالغرابة والشذوذ ! "
كانَتْ هذه الجملةُ الأخيرةُ كأنها وقودٌ صُبّ على نارٍ في نفس الزوجة فاشتعَلَتْ , فقالَتْ :
- " ما دمْنا في جولة المصارحة هذه , فإنني أعترف أنني على الرغم من عدم فهمي لما حدث قبل قليلٍ بينك وبينهما , إلا أنني في اللحظة التي خرجْتَ فيها من الغرفة وصوتِ بكاء ( سنيّة ) لا يزال مسموعاً من وراء البابِ , قد شعرْتُ _ كما لم أشعر من قبلُ _ بفحولة زوجي ورجولتِه , واشتدَّتْ رغبتي فيكَ ؛ ليس بسبب العقاب والضربِ وكلّ هذا , فأنا لا زلْتُ لا أفهم جاذبيّةَ هذا الأمر .. ولكنْ ما شعرْتُ به يشبه شعورَ من تحرّش بها شخصٌ صفيقٌ فسار إليه زوجُها وأوسعه ضرباً .. ثمّ ذهب بها إلى البيتِ فأوسعها حبًّا ... أتعرف هذا الشعور ؟ ... أنا أمّ البنتَينِ ولكنّي لا زلْتُ امرأةً رقيقةً وقد لا يطيعان أمري , ولكنْ عندما يعود أبوهما للبيتِ سيخافان من ذكوريّته القاسية فينصاعان لأوامره ... فكرة الذكورية الطافحة هذه وما يقابلها من أنوثية رقيقة .. هي ما يثير فيّ شعوراً جنسيًّا لا أستطيع إنكارَه ! "
- " أعتقد أنني أتفهم ذلك ؛ يفترض بعد أن فرغْتُ من إثبات ذكوريّتي الطافحة المصحوبة بقسوة غير مبررة وذعر في نفوس من حولي ممن حلّ عليه غضبي ... يفترض بي بعد ذلك أن أفرغ لأميرتي التي تعتصم بقوّتي من هول الأخطار المحيطة بها في العالم الخارجي , فأوسعها حبًّا كما قلْتِ . أليس كذلك ؟ "
هزّتْ زوجتُه رأسَها في موافقةٍ , فأدناها منه وقبّل فمَها قبلةً رقيقةً , فغاصَتْ في حضنه , وقال :
- " إلى السريرِ , يا أميرة ! "
ابتسمَتْ في عذوبةٍ , وقالَتْ :
- " الطريق طويلة , وقدماي لا تقويان على ما تقوى عليه قدماك القويّتان ! "
فهم دعوتَها فلبّاها , واستغرب من أنه لم يحمل زوجتَه ويذهبَ بها إلى السرير إلا مرةً واحدةً فيما سبق ؛ في ليلة زفافِهما ... كان هذا تقصيراً من جانبه , وقد عزم على أن يعوّضها عنه في المستقبلِ ... ثمّ عندما أودعَها في سريرِها , بدأ في نزع ثيابِه , وهو يرسم ملامح جامدةً قاسيةً على وجهه , وكأنه جندي عازم على اختراق دفاعات الأعداء , وكان لذلك أثر السحر على ما يبدو في زوجتِه التي ندَتْ عنها آهة مشتاقة خافتةً لم يسمعْها منها قبلَ ذلك ... وكلّما زاد في التظاهر بالقسوة والفحولة _ من دون أن يستتبع ذلك عنفٌ في حقّها ؛ لأنها رقيقة ضعيفة لا تستطيع أن تتحمل عقاباً ولا ما دون العقاب ممن هو في مثل فحولتِه وقوّته _ كلما ازداد شوقُها وغلمتُها إليه ... ومرّتْ تلك الليلة وكاملُ الأسرةِ مشغولٌ بما جدّ في حياتِهِ ...
وعندما اجتمع أربعتُهم على مائدة الإفطار في صباح اليوم التالي , كانَتِ الأم أكثر تفهّماً لمشاعر ابنتيها اللتين تتبادلان النظراتِ وكأنّ كليهما تحاول حثّ الأخرى لتفتح الموضوع , فعاجلَتْهما أمّهما وقالتْ :
- " لقد أخبرني أبوكما بما حدث , وباستحقاقكما لعقابٍ أسبوعيّ في يوم إجازتِه على ما تقترفانه في ذلك الأسبوع , وأريد أن أؤكد على أنّ أمر أبيكما نافذٌ في هذا البيتِ , وأنه يستحسن بكما أن تكونا مطيعتَيْن في حال غيابِه حتى لا أرفع شكوى على أيٍّ منكما له , وأنتما تعلمان ما سيحدث حينها ! "
قالَتْ البنتان في صوتٍ واحدٍ :
- " بالطبع يا أمي ! "
فابتسم الأبُ , وقال _ وكأنه يرسي أركان النظام الهرميّ في البيت _ :
- " عندما أغيب عن البيتِ لعمل أو غيرِه فسيتضاعف العقاب ضعفَين على أيّ ذنب ترتكبانه حالَ غيابي وتخبرني به أمُّكما فيما بعد, حتى لا تتجرّءا على عصيان أمْرِ أمِّكما في غيبتي . هل هذا مفهوم ؟ "
- " نعم يا أبي ! "
- " نعم يا أبي ! "
نظرَتِ الأم إلى خضوعِ ابنتيها المفاجئ الذي لم تعتدْه من قبلُ , وبدا لها أنّ فكرةَ العقابَ هذه لا تبدو بهذا السوءِ , ما دام هذا من آثارِها , ولكنّ ما كان يشغلها أكثر هو تصوّر ما سيجري بينها وبين هذا الأب " مسموع الكلمة , عظيم المهابة " عندما يختليان معاً في تلك الليلة !
أما البنتان فقد كانتا أيضاً متشوقتَين إلى ما سيجري لهما على يد هذا الأب " شديد البطش , دقيق المحاسبة " عندما يفرغ لمؤخرتَيهما في ذلك اليوم من الأسبوع !
وأما الأب فقد كان لا يدري إلى أي الجهتَين هو أشوقُ ؛ إلّا أن للجهة الأخيرة اتصالاً أمسّ بما اعتاد هو أن يشتاق إليه في شبابه , وإن كان الآن قد صار على الجانب الآخر من العملة ... أما الجهة الأولى فقد كانَ لها جدّة , ولكل جديد لذّة .. وعلى أية حالٍ فما الداعي إلى المفاضلة بين أمرَيْنِ كلاهما متاحٌ , وكلاهما متشوّقٌ له من قِبَلِ الفاعل والمفعول به !
**********
- " ألا زالَتْ معترضةً ؟ "
- " لقد زال اعتراضُها بالكليّة , وستقابل الباشا عندما يحضر , وإن كان لحدس الأم أن يعلن رأيَه , فأنا أرى أنها ستقبله زوجاً "
- " متى جدّ كلّ هذا ؟ آخرُ ما أبلغتِني به أنها مستاءة من كِبَرِ سنّه ! "
- " لقد كان كِبَرُ السنّ هذا رمزاً لشيءٍ آخرَ أكّدْتُ لها انتفاءَه في حق الباشا , فزالَ اعتراضُها بالكليّة "
- " ما الذي كان يرمز إليه كِبَرُ السنّ ؟ "
على الرغم من زواجها من هذا الرجل لسنين طويلة إلا أنها لا تزال تخجل من مفاتحتِه في هذه الأمور , فقالَتْ :
- " هذه أمورٌ نسائيّة , وقد حُلَّتْ . فلا تشغلْ بالَكَ بها ! "
- " (حميدة) ! أنتِ دائماً ما تعتقدين أنك قادرة على القيام بشئون هذا البيتِ والتصرف من تلقاء نفسِكِ , وأنا في المعتاد أتغاضى عن ذلك , ولكنّ الأمرَ في هذه المرة عظيمٌ , ولا أريد أنْ نضربَ ميعاداً لمقابلة الباشا ثم أفاجأ أن البنتَ لا تزال رافضةً وتفضحنا أمام عليةَ القومِ ! "
كانَتْ الأمّ لا تزال تتذكر عقابَها لابنتِها , ثم جاء استفتاحُ كلامِ زوجِها فكان كفيلاً لانشغال الأم عن تمامِه , إذ قد تعلق قلبُها وعقلُها وجسْمُها بقوله ( وأنا في المعتاد أتغاضى عن ذلك ) , وما تَحْمِلُه هذه الجملة من وعودٍ تتمنى تحقُّقَها , فقالَتْ له في دلالٍ :
- " لنفرضْ أنّ خوفَك في محلّه ، وأنني أخطأتُ التقديرَ وتسببْتُ في فضيحتنا أمام علية القوم . ثم ماذا ؟ "
- " ثم ستكون هذه مصيبةٌ , من الأفضل أن نعْلَمَ مِن الآن أنها رافضة لنلغي الموضوع ! "
كان الحوار يذهب مرّةً أخرى بعيداً عن الجهة التي تريده أن يذهب إليها , فقالَتْ :
- " ولكنّ هذه المصيبة ستكون حينها ذنبَك أنت دون سواك ! "
- " كيف هذا يا امرأة ؟! "
- " لأنك _كما قلْتَ_ قد عوّدْتَني أن أستقلّ بشئونِ البيتِ وأن أفعلَ ما يحلو لي حتى استقر عندي أنني لا رقيبَ عليّ يراجعني فيما أفعله ويعاقبني إذا استحققْتُ العقوبةَ , فإذا تسبّبَ سوءُ تقديري في هذه المصيبة , فأنت من جرّأني على فعل ما يحلو لي من البداية "
كان زوجها لا يزال غافلاً عما تلمّح إليه , فقال :
- " هل البنت موافقة أم لا ؟ سؤالٌ بسيطٌ ! "
- " البنتُ موافقةُ ! "
- " حسناً إذن ! بإمكاننا الآن أن نستمر في لعبة الأحاجيّ هذه ما دمْنا قد تأكّدْنا من أنّ البنتَ موافقة ... ما الذي تلمّحين إليه بالضبط ؟ "
- " لقد كانَتِ البنتُ تحسب أن الباشا من هؤلاء المتخشّبين الذين لا يلبّون حاجاتِ زوجاتهم , ولكنّها سعيدة الحظّ فقد تأكّد أنه _خلافاً لما يوحي به مركزه _ ابنَ بلدٍ عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع زوجتِه ! "
- " وما الفارق بين ابن البلد والمتخشّب في هذا الأمر ؟ "
- " المتخشّب يظل يسأل زوجتَه في بلادة: وما الفارق بين هذا وهذا ؟ , وما الذي تلمحين إليه؟ .. أمّا ابن البلد فيجعل زوجتَه في حجره ثم يسألها في تبجح : هل هذا هو الفارق ؟ أم هل هذا هو الفارق ؟ بينما يداه تنوبان عن اللسان في إتمام السؤال ! "
كانتْ هذه صراحةً لا تترك شكّاً لذي شكّ , ولكنّ الزوجَ أصرّ على موقفه المتباله , وقال :
- " هل هذا تلميحٌ إليّ ؟ "
انفجَرَتْ ( حميدة ) :
- " بل هذا تصريحٌ بخيبتِك ؛ كم مرةً جئتُك بالأكل مالحاً أو محروقاً وبثيابِك متسخةً أو مجعّدةً . حتى تغضبَ ، فيستفزّك الغضبُ فتعاقبَ ، ولا تجد عقاباً ناجعاً غير الضرب فتضرب ؛ ولكنّ الجسد الذي تضربه أنت كذلك تشتهيه فيشترك الغضبُ مع الشهوة في مسّ جسدي وتأديبِه ؛ هل تريد تصريحاً أكثر من ذلك ؟ أنا أريدك أن تعرّيني وتجعلني في حجرك وتوسع مؤخرتي صفعاً حتى يحمرّ ردفاي ويبتلّ حجْرُك من فرط شهوتي ؛ أتريد مزيداً من التصريح ؟ "
- " أعتقد أنّ هذا كافٍ ! "
- " ثم ؟ "
- " ثمّ إن الذي على البرّ عوّامٌ . لو ضربْتُكِ كما طلبْتِ لطلبْتِ الطلاقَ وبكيْتِ عند أبيكِ "
- " يا رجل ! أأنت أعلم بي من نفسي ؟! لو ضربتني كما طلبْتُ لأكببْتُ على رجليكَ أقبّلهما ! "
- " كلام فارغٌ ! "
- " بل كلامٌ ملآنُ , ولكنّ الفارغَ مَنْ لا يقدر على تنفيذه ! "
- " كفّي عن التعريض بسبّي وإلا رميْتُ عليكِ يمينَ الطلاق ! "
كان هذا هو ما يلجأ إليه زوجُها لينهاها عن تماديها في الشغب عليه ؛ بينما هي تمنّي نفسَها أن ينتهي هذا الشغبُ إلى شيءٍ آخرَ تتوق إليه , فلا تكفّ عن شغبِها , ولكنّ هذه هي المرة الأولى التي تصارحه فيها برغباتِها بهذا الجلاء , ثمّ هو يردّها هذا الردَّ المنكرَ ...
وعلى الرغمِ منها شعرَتْ بغيرة هائلةٍ تجاه ابنتِها التي توشك أن تصير زوجةً لمن سيبلّغها مما تتمنى هي أن تبلغه مع زوجِها .. نظرَتْ إليه في غيظٍ , فقال :
- " حسناً ! لا داعي للغضبِ لأنني هددْتُ بتطليقكِ , ولكنّكِ أنتِ من يستفزني ويقول كلاماً لا معنى له ؛ تريدين أن أضربَكِ ؟! وهل يريد أحدٌ الضربَ ؟! اعقلي يا امرأة ! "
حاولَتْ منع الدموعِ من الانحدار من عينيها , ولمّا بدا أنّها عاجزةٌ عن ذلك , قامَتْ مسرعةً لتخرج من الغرفة وقد سالتْ دموعها على خدَّيْها ؛ عزاؤها الوحيد أن ابنتَها لن تتعرض لمثل ما تتعرض هي له الآن ؛ إنْ فاتَها ما تطمح فيه فلا أقلّ منْ أنْ تقرّ عيناً بأنّ ابنتَها ستكون أسعد حظًّا منها ...
ثمّ فكّرَتْ مرةً أخرى في الأمر فوجدَتِ الفكرةَ غريبةً , ووجدَتْ زوجَها معذوراً بعضَ الشيءِ , من يتصوّر _ إن لم يكن يَجِدُ مثل ما تجده هي وابنتُها من رغبة _ أنّ زوجاً مؤدبًا رفيقاً لا يضرب امرأتَه سيكون وبالاً , وأن زوجاً ماجناً لا يكفّ عن صَفْعِ ردفي امرأتِه سيكون نعمةً ؟!
ثمّ خطرَتْ لها خاطرةٌ مخيفةٌ : ماذا إذا كانَتْ ابنتُها قد ورثَتْ هذه الرغبةَ عنها ؟ وهل معنى هذا أنّ نسلَها ونسلَ ابنتِها ستسمرّ فيهم هذه الصفة ؟ ولكن هل هذه الصفة شيءٌ مذمومٌ أم محمودٌ ؟ لو كان الأمر مثلَ حالِ ابنتِها التي تبدو موشكةً على أن تنال رغباتِها وتزفّ إلى زوجٍ يرغب فيما ترغب فيه , فالأمر لا يبدو بهذه الخطورة , ولكنْ ماذا عمّن ينتهي بهم الحالُ من أحفادِها إلى مثل ما هي فيه ؟ يرغبون ولا يستطيعون إشباع رغباتِهم ؛ كانتْ تعرفُ هذا الشعورَ معرفةً شخصيّةً ولا تتمنّاه لأعدى أعدائها ...
ومن أعماقِ أعماقِها تمنّتْ ألّا يتعرّض أحدٌ من أبناء بنتِها إلى مثل ما تعرّضَتْ هي له ؛ أن يجدوا جميعاً مَنْ يهيلُ الصفعاتِ على أستاههم كلّما تمنّوا ذلك ؛ ألا يبيتَ أحدُهم بمؤخرةٍ معافاةٍ من الضربِ وقد اشتاق إلى أن تُضْرَبَ ؛ إذا كان أحفادُها يشعرون بنفس الرغبة التي تشعر هي بها فسيكون تحقّقُ هذه الأمنيّة من أكبر أسباب سعادتِهم فيما بعد ... ومن أعماق أعماقها تمنّتْ مرةً أخرى أن تتحق تلك الأمنية ... وأغمضَتْ عينيها .. وفي السماء الصافية _التي حجبَها عنْ عيني حميدة سقفُ المنزل_ مرَّ شهابٌ متّقدٌ لامعٌ كأنّه كان ينتظر انعقاد الأمنية ليخترق في تلك اللحظة غلافَ كوكبنا الجويّ !
وكُتِبَ في تلك الليلةِ لأمنيّة المرأة الأميّة البسيطة أن تتحقَّق !
وكُتِبَ لأجيالٍ من أحفادها أن ينعموا بما حُرِمَتْ هي منه !
________________